التنمية.. نماذج لمقاربات ناجحة وفاشلة عبر العالم
ونحن نبحث عن النموذج الأمثل للتنمية الناجعة في مجتمعاتنا، لا بد من أخد العبرة من التاريخ ماضيه وحاضره. في هذا المقال أستعرض بعض من هذه التجارب عبر العالم على أن أناقش في مناسبة قادم مفهوم التنمية، وبعدها سأقدم نقدا للنموذج التنموي المغربي، على أن استعرض في مقالات مقبلة بعض الخطوط العريضة للنموذج التنموي المتجدد الذي أقترحه فيما يخص المغرب ودول العالم الثالث بشكل عام.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (وحتى قبلها) والعالم يعيش على وقع نماذج متتابعة وأحيانا متضاربة حول كيف يجب أن تكون التنمية. مخطط مارشال لإعادة إعمار أوربا الغربية والذي تبنته الولايات المتحدة كان بغرض إعادة البناء، ورفع القيود الجمركية وتحديث الصناعة وذلك بهدف دعم ازدهار أوربا ودرء خطر المد الشيوعي. وكان لهذا المخطط وقعا إيجابيا حيث شهدت أوربا الغربية أكبر نسبة نمو في تاريخها ما بين 1948 و 1952 وتطور الإنتاج الصناعي ب 35% وتطور الإنتاج الفلاحي إلى نسب أعلى مما كان عليه قبل الحرب واندثرت نهائيا مظاهر الجوع والفقر. مخطط مارشال دشن لفترة ازدهار في أوربا الغربية دامت حوالي عقدين من الزمن. ويبقى هذا النموذج مثالا حيا لتنمية ناجحة تعتمد على تدخل حكومي (بدعم خارجي) لتصحيح اختلالات واضحة اجتماعية واقتصادية (رغم أن بعض منظري الاقتصاد يقولون بأن عودة النمو كانت قد بدأت تلوح في سماء أوربا ومخطط مارشال فقط أعطى لها دفعة قوية إلى الأمام).
مقابل هذا نجد عملية تجميع وتأميم وسائل الإنتاج في العهد الستاليني في الاتحاد السوفياتي خصوصا في الثلاتينات من القرن الماضي والتي كان الهدف منها على المستوى الفلاحي هو الرفع من وفرة المواد الغذائية و المواد الأولية الموجهة للصناعة وكذا دعم الصادرات الفلاحية. المخططات الخماسية والتجميع على مستوى الكولخوزات والسوفخوزات لم يعط أكله بل تسبب في موت حوالي 13 مليون نسمة وخلق مآسي اجتماعية تمثلت في تهجير ملايين من السكان من مواطنهم الأصلية.
على العكس من ذلك، فإن التصنيع في الاتحاد السوفياتي في الثلاتينيات من القرن الماضي كان ناجحا من حيث الرفع من مخرجات الإنتاج الصناعي ولكن ذلك كان على حساب ظروف عمل العمال الذين كانوا يعملون في ظروف مزرية ويواجهون ضغوطا عظمى للوصول إلى الحصة المخصصة، بالإضافة إلى الخوف من تهمة الخيانة وكانوا يواجهون مخاطر كثيرة تتمثل في غياب شروط السلامة والصحة والخوف من الفصل من العمل ومواجهة الحرمان من الحصة الغذائية التي توزعها الدولة ومواجهة شبح المجاعة والتشرد. أضف إلى هذا أنه على عكس الفلاحة، فإن التصنيع استفادت منه الدولة من الناحية التجارية والعسكرية والمالية أكثر مما استفاد منه المواطنون.
التنمية شردت وقتلت الملايين خصوصا في الأنظمة الشيوعية الشمولية. الصين في زمن ماو عرفت أغرب وأفظع مغامرات التنمية في تاريخ البشرية. "القفزة العظمى إلى الأمام" هو برنامج طموح وضعه ماو تسي تونغ لتحويل المجتمع الصيني من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي عبر التصنيع والتجميع (أو الإنتاج الجماعي). لقد دفع ماو الصينيين إلى التحول إلى صناعة الحديد: فانتقل الكل إلى بناء أفران في الأرياف والمدن لصناعة الحديد ولكن النتيجة كانت جبالا من الخردة لا تصلح لشيء إلا للقمامات. من أجل ذلك جلب ماو تسعين مليون صيني من المزارع واستخدمهم في إنتاج الحديد وهو ما جرد الفلاحة من يد عاملة كفؤة فانخفض الانتاج الفلاحي وهو ما عجل بالمجاعة الكبرى ل1960 و 1961 والتي ذهب ضحيتها من ثلاثين إلى خمسة وخمسين مليون نسمة.
على مستوى العالم الثالث، فإن الدول التي نجحت في امتحان التنمية هي كوريا الجنوبية وسنغفورة وهونغ كونغ وماليزيا والشيلي وتايوان وكوستاريكا. الخيط الرابط بين هذه التجارب هو تبني قاعدة صناعية صلبة، ووجود إرادة سياسية قوية (في ظل أنظمة استبدادية أولا قبل أن تتحول إلى أنظمة ديمقراطية)، وتبني اقتصاد السوق والاستثمار في المعرفة والبحث والابتكار واعتماد سياسة تجارية خارجية ناجحة وناجعة. أغلب هذه الدول كانت قبل خمسين سنة لا تبعد عن دول مثل المغرب إلا بقليل. ولكن الإرادة، والصرامة في العمل، وتجند المدرسة والأسرة والجامعة ووسائل الإعلام لخدمة التنمية جعلها تقفز إلى مصاف الدول المتقدمة. لم تؤمن هذا الدول بالحلول السريعة ولكنها ثابرت عبر العقود لتحسين إنتاجها وتكوين رأسمالها البشري ووضع أنظمة صارمة للعمل وتنظيم الإدارة والمجتمع.
تأتي بعد هذه مجموعة دول مثل الصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل وكولومبيا ودول أوربا الشرقية وغيرها. هذه الدول عرفت تحولات نوعية فيما يخص الرفع من الإنتاج الصناعي والفلاحي وتدني مستوى الفقر ونمو المبادلات التجارية. و من المتوقع أن تنتقل الصين في غضون سنوات إلى دولة متقدمة خصوصا إن نجحت في تطوير قطاعات الخدمات والسياحة لكي يخلق التوازن مع زخم التطور الصناعي الهائل. الهند تعرف تطورا تكنولوجيا وصناعيا وعلميا هاما ولكن الفوارق الاجتماعية لازالت كبيرة والفقر يبقى آفة ذات أبعاد ثقافية وسياسية ودينية. تتمتع البرازيل باقتصاد متنوع يرتكز على الفلاحة والصناعة والخدمات والتجارة ولكن البطالة وثقل الديمغرافيا والتحديات الإيكولوجية وإشكاليات الحكامة لازالت تحد من قدرة البرازيل على الالتحاق بمصاف الدول المتقدمة على مستوى النمو. جنوب إفريقيا تملك مجموعات مالية وصناعية متعددة لها قدرة متطورة على الاستثمار خصوصا على مستوى إفريقيا؛ اقتصادها متنوع وما فتيء ينمو؛ ولكنها تشكو من الفوارق الاجتماعية الكبيرة خصوصا بين البيض والسود، والتأثير السلبي لانتشار مرض السيدا وتنامي الجريمة المنظمة وانتشارالرشوة والمحسوبية. دول أوربا الشرقية تتمتع بوجود نظام تربوي ناجح وقاعدة صناعية لابأس بها ونخبة مثقفة مهمة وطبقة متوسطة عريضة. لهذا فدول مثل بولونيا والتشيك وهنغاريا وسلوفاكيا ودول البلطيق تعرف نهضة تنموية مهمة رغم إغراءات اليمين المتطرف والتدخل الروسي وتعثر عملية بناء الاتحاد الأوربي.
تأتي بعد هذه المجموعة الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى مثل المغرب والجزائر وتونس والأردن ومصر وغانا والكوت ديفوار والأرجنتين والباكستان واندونيسيا والمكسيك وكينيا وانغولا وإثيوبا وغيرها…هذه مجموعة عريضة ومتنوعة ولكن لها قواسم مشتركة متعددة. هي في أغلبها دول شهدت فترة بناء الدولة الوطنية المابعد كولونيالية و كانت التنمية هي وسيلة لتقوية شرعية الحاكم أو لشرعنة الاستبداد، وهي دول عرفت صراعات على السلطة بين النخب تم فيها تغييب المواطن وتأجيل قضاياه إلى حين. مع حلول الدولة المابعد استبدادية أو الديمقراطية خصوصا مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، وجدت هذه الدول إرثا ثقيلا من التخلف واللاتنمية حاولت التغلب عليه عبر حلول سريعة في بعض الأحيان أو برامج طموحة أحيانا أخرى، البعض منها نجح والكثير منها لم ينجح، لوجود خلل في نظام الحكامة، أو لتعدد المتدخلين، أوغياب الصرامة في التخطيط والتدبير والتتبع، ناهيك عن تسييس التنمية عند الحاكمين والطبقة السياسية على حد سواء. النتيجة هي تجارب فاشلة/ناجحة ونمو محتشم وشرائح كبيرة من الشباب والمواطنين يعيشون على هوامش هذه المجتمعات. نعم تغلبت هذه الدول على جزء من الفقر، وحققت ققزات كمية فيما يخص التربية، ودعمت الاستثمار وخلقت مناصب للشغل ولكنها لم تحقق القفزة النوعية التي حققتها دول مثل كوريا الجنوبية أو هونغ كونغ أو التايوان أو نيو زيلاندا.
ماذا نستخلص من كل هذا؟ التنمية ليست تاريخيا كلها تجارب فاشلة. دول أوربا الغربية والتنينات الآسيوية والأوسيانية وأوربا الشرقية (مؤخرا) كلها تجارب رائدة لدول كانت قبل ستة أوسبعة عقود إما مدمرة جراء الحرب أو فقيرة أو مستعمرة أو تابعة لأنظمة شمولية تخنق الإنتاج وحرية السوق. والتنمية صبر ومعاناة وانتظار: إصلاحات دان كسياو بينغ في السبعينات والثمانينات لم تعط أكلها في الصين إلا بعد ثلاثين سنة؛ لي كوان يو مؤسس سنغفورة عمل لثلاثة عقود دون كلل قبل أن تصير هذه المدينة في مصاف الدول المتقدمة… التنمية لا تأتي من التساهل مع القانون، وقبول التسيب وغياب الصرامة في العمل والمدرسة والشارع… والتنمية كذلك لا تقبل المغامرة أو الهندسة الاجتماعية: فهناك من التنمية ما قتل وبالملايين كما رأينا مع ماو وستالين. التنمي عمل عقلاني لا يقبل الحسابات السياسية الضيقة أو الاعتبارات الإيديولوجية العقيمة. والتنمية تنجح حين تضع الإنسان في صلب المعادلة وفي إطار مقاربة مستدامة لا إحسانية أو خيرية كما سنتطرق إلى ذلك في مناسبات مقبلة.