الخبر من زاوية أخرى

ذ جـلال الطاهـر يكتب : هل العقوبة الجنائية، غاية، أم وسيلة ؟

ذ جـلال الطاهـر يكتب : هل العقوبة الجنائية، غاية، أم وسيلة ؟
جلال الطاهرجلال الطاهر

هذا السؤال طرح على اإلنسان يف مسريته الوجودية يف هذه احلياة، منذ أن تشكل يف مجاعة، بدائية

أو منظمة، وأصبح هذا الوجود والتعايش اجلماعي، مصدرا لألذى من اإلنسان ألخيه اإلنسان، عن طريق
اجلرمية منذ قابيل وهابيل.
وتعددت اخليارات اإلنسانية يف اجملتمعات املختلفة، وعرب األحقاب التارخيية، حيث أعياها البحث
املضين اهلادف إىل إجياد وسيلة مثلى، للحد من اجلرمية كإمكانية، أو منعها ابملرة كغاية مثلى.
وطرح هذا السؤال اليوم يف بالدان أصبح ضرورة، يفرضها االرتفاع املهول، لعدد السجناء بنسبة تتصاعد
سنة عن سنة، مع ما يطرحه هذا الواقع من إشكاالت اقتصادية واجتماعية وحقوقية ومالية،… وما خيلفه من
قلق لدى الرأي العام، واملسؤولني على خمتلف املستوايت، حيث أاثر أحد رؤساء الغرف الربملانية، مبجلس
النواب إشكالية هذا االكتضاض، وأرجع أسباهبا إىل أن قضاة املادة اجلنائية، يلجأون إىل إصدار أحكام
بعقوابت قاسية، تعكسها املدد املرتفعة للعقوبة.
ومباشرة بعد إاثرة هذه القضية، أمام الربملان، سارع وزير العدل واحلرايت، مباشرة إىل القيام بزايرة إىل
اجلهة القضائية املذكورة، مما يؤكد حقيقة ما أشار إليه رئيس الفريق املذكور، ودرجة الصدى الذي خلفه لدى
املسؤول األول، عن بلورة السياسة اجلنائية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تصرحيات املندوب العام إلدارة السجون، املنشورة يف الصحافة
الوطنية، خالل الفرتة املذكورة، اعتربت أن إشكالية االرتفاع املهول للسجناء، ال ميكن حلها فقط عن طريق
بناء السجون، أو ترشيد تدبري التسيري اإلداري والتنظيمي داخلها، بل إن ما يزيـد مـن تعقيد الوضعية، هو
األحكام القضائية القاسية اليت يصدرها القضاة واملبالغة يف االعتقال االحتياطي، وكأنه يعترب- واحلالة هذه
– أن العقوابت املرتفعة، واالعتقال االحتياطي – وحدمها – هي أحد العوامل األساسية، يف تعقيد األوضاع
داخل السجون، مع ما يرتتب عن ذلك، من انعكاسات سلبية على احلالة احلقوقية العامة، اليت تتجاوز آاثرها
حدود البلد، لتمس مسعته يف احملافل احلقوقية الدولية.
2
بشكل
مطروحا
وبناء عليه، فقد أصبحت العقوبة القاسية وإجراءات االعتقال االحتياطي، موضوعا
حاد، يتطلب الدراسة العميقة، لفلسفتها، والغاية منها، وشروط حتديدها وتنفيذها.

مؤقتا
فالوضع يف السجن، سواءكان اعتقاال كتدبري، ملدة حمددة احتياطيا
، أو سجنا
أو حبسا حبكم
أو قرار، أصبح يطرح مشكلة اكتضاض السجون، وما ترتبه هذه احلالة من عواقب وإفرازات، حقوقية
واقتصادية، وإنسانية…
وما دام القانون، هو وسيلة لتنظيم احلياة يف اجملتمع، يف األحوال العادية أو االستثنائية، وما دامت
الدولة هي املسؤولة عن تدبري احلياة االجتماعية، وأتمني الطمأنينة واالستقرار، واحلفاظ على إنسانية اإلنسان،
فإن االكتضاض داخل السجون، أصبح ظاهرة خطرية جيب معاجلتها، بعد اإلحاطة أبسباهبا املباشرة، وغري
عن إلقاء اللوم على هذه اجلهة أو تلك.
املباشرة، مبسؤولية وموضوعية، بعيدا
إن الواقع االجتماعي املعيش لدى الطبقات الفقرية، املوسوم ابخلصاص واهلشاشة، واحملدودية القاسية
لإلمكانيات املادية لتوفري احلدود الدنيا الستمرار احلياة، قد جتعل بعض ساكنة السجون من الشباب، الذين
يكتوون بقساوة هذه الظروف، ال يهابون من عواقب ارتكاهبم لألفعال اإلجرامية، لعلمهم أن املآل الذي هو
من احلياة اليت يعيشوهنا داخل البيت،
السجن، لن يكون أكثر سوءا أو يف احلياة العامة املطبوعة ابخلصاص،
يف الوعي ويف ضرورات احلياة يف مستوايهتا الدنيا.
فالظاهرة أكرب من أن تعود مسؤوليتها جلهة حمددة، أو سبب واحد، وأعقد من أن يعاجلها طرف واحد،
حبيث إهنا تشمل اجلانب التشريعي والقضائي، واالجتماعي، واالقتصادي، والرتبوي، واحلضاري…
فبالنسبة للتشريع، ميكن مالحظة أن القانون اجلنائي املغريب الذي حيدد، أركان اجلرمية ومدة العقوبة،
قد مر على وضعه أكثر من نصف قرن، شهدت اجملتمعات ومنها املغرب، حتوالت عميقة على مجيع
املستوايت، فكان من الضروري أن تنعكس هذه التحوالت على التشريع عامة واجلنائي بصفة خاصة، مادام
القانون وسيلة لتنظيم احلياة وترتيب العالقات واألوضاع املختلفة، وتدارك أعطاب اجملتمع ومعاجلة مظاهر
اخللل فيه.
3
فبالنسبة للتشريع اجلنائي املوضوعي أو اإلجرائي، ال بد من توافر تفاعل وتكامل بينهما يف معاجلة
القضااي اجلنائية، على خمتلف مستوايهتا، وخاصة وجوب حتديد العقوبة، مبعايري موضوعية، ال جتعل سلطة
القضاء التقديرية مغلولة ، و ال تبسطها كل البسط، بل ينبغي أن ت .
كون بني ذلك قواما
مع اإلشارة إىل أن ضرورة التطور، تفرض إعادة النظر يف كثري من فصول القانون اجلنائي، اليت أصبحت
،
وال واقعا
متجاوزة ال منطقا ولتأكيد هذه الضرورة، ميكن اإلشارة على سبيل املثال إىل الفصول 507 وما
مثال عقوبة الفصل 509 من القانون اجلنائي إىل عشرين سنة، يليه من القانون اجلنائي، حيث ميكن أن تصل
لشخصني، سرقا دجاجة ليال !
فال يعقل واحلالة هذه، أن تستمر مثل هذه املقتضيات املوروثة عن مرحلة سادت لكنها اليوم ابدت،
وأصبحت هلا مضاعفات سلبية، يف توزيع العدل بني الناس.
على ما ذكر، فإن عملية وضع العقوبة، وتنفيذها، مل ت
وعطفا فعل املقتضيات اإلجيابية اليت وردت يف
قانون املسطرة اجلنائية، على شكل بدائل خمتلفة، لتنفيذ العقوبة على الطريقة التقليدية ، اليت أصبحت متجاوزة
يف كثري من األوضاع، وابلنسبة للعديد من احملالني على القضاء ، يف جتاهل أو إمهال ملقتضيات تفريد العقوبة.
وهنا ميكن التساؤل عن الغاية من وضع العقوبة، هل الغاية هي إحلاق األذى واألمل، أم أن العقوبة هي
وسيلة عالجية، لعضو يف اجملتمع فقد رشده وخرج على قواعد التعايش داخل اجملتمع، وينبغي إعادته إىل جادة
الصواب من حالة الشرود الطارئة عليه ؟؟
وهل السجن مكان لعقاب اجملرم، أم مؤسسة إلصالحه، وإعادة إدماجه يف اجملتمع ؟؟
فاستقراء التشريع، يفيد أن القانون يكتفي بوضع القواعد واألحكام، واألنظمة اليت تتحرك يف إطارها
العقوبة، وال حيدد أهداف العقوبة ومقاصدها بصفة صرحية ودقيقة، ألن غايته املساواة النظرية اجملردة، ولو
ً – بعيدة عن املساواة الفعلية.
كانت – عمليا
4
إن إشكالية العقوبة واالعتقال مطروحة إبحلاح على اجملتمع برمته، وانعكاساهتا وآاثرها متعددة األبعاد
االجتماعية واحلقوقية واالقتصادية… ومعاجلتها تقتضي تدخل كل الفعاليات الرمسية والشعبية، بقصد اإلحاطة
الشمولية، يف تفاعل خالق بني النظرية احلقوقية والتجربة امليدانية، يف استحضار لطبيعة اجملتمع املغريب
وخصوصياته ، وبنياته االجتماعية و التعليمية، واالقتصادية، والسياسية، والنفسية… لتحديد مقاصد العقوبة،
يواصل يف السنني األخرية، بدوافع حقوقية
وطنيا
و وسائل الوصول هلذه الغاية، واملناسبة مواتية، حيث إن حوارا
واقتصادية، واجتماعية، بغاية إجياد بدائل للواقع الذي تنعكس آاثره السلبية على كل مناحي احلياة، واألكيد
أن مسؤولية مواجهة هذا الواقع، كان من بوادر التعامل معه، ولو يف إطار التشريع، حيث مت وضع قانون
العقوابت البديلة رقم ،43.22 الذي يعترب – رغم ما قيل عنه – خطوة مبدئية يف مسار تدبري إشكالية
للحد من مضاعفاهتا االجتماعية واالقتصادية واحلقوقية، واألمر مرهون مبسطرة تطبيق هذا
العقوبة، سعيا
لتفاعالته ومساطره مع الواقع، املوضوعي املعقد، الذي لن ختفف من عنا
االختيار، ترقبا ده إال املتابعة الدائمة
لتشعباته وإفرازاته لتدارك النقائص وتكريس اإلجيابيات.