الخبر من زاوية أخرى

حتى تظل مهنة المحاماة ضمير المجتمع بكامله

حتى تظل مهنة المحاماة ضمير المجتمع بكامله
مصطفى الفنمصطفى الفن

رغم أن مهمة نقيب على رأس هيئة للمحامين هي مهمة تطوعية وربحها معنوي في المقام الأول..

ورغم أن هذه المهمة ليست فيها “ربما” أي تعويضات أو امتيازات مالية في آخر الشهر..

ورغم أن هذه المهمة قد تفرض على صاحبها أن يكون أول من يؤدي الثمن حتى من حريته إذا اقتضى الحال ذلك..

ورغم أن هذه المهمة قد تفرض أيضا على صاحبها أن يكون “متصوفا” وبعيدا عن الشبهات حتى أن النقيب قد “يحرم” على نفسه حتى ما هو مشروع وما هو “حلال” طيب..

وقد حصلت هذه المكارم في عهد نقباء أفاضل منهم من قضى نحبه ومنهم من لازال ينتظر..

وهذا هو الطبيعي.. وهذا ما جرت به التقاليد والأعراف المرجعية في هذه المهنة مع الكثير من آبائها المؤسسين..

ثم إن الأصل في مهمة النقيب أولا وأخيرا هو خدمة زملائه وخدمة غيره وخدمة القيم وخدمة الشرف والوقار وخدمة هذه المهنة النبيلة ولو على حسابه وعلى حساب ملفات مكتبه..

قلت: رغم كل هذا، إلا أني لا أفهم سر هذا “السخاء غير العادي” ولا مصدر هذه الأموال الكثيرة التي تبدد يمينا وشمالا على مهمة “تطوعية”..

إنه فعلا سخاء غير عادي..

وأنا أخشى أن تكون بقايا أموال الراحل هشام المنظري مازالت تروج بشكل من الأشكال في محيط مهنة كانت وستظل ركنا من أركان العدالة بالبلد..

يحصل كل هذا في هذه الحملة الانتخابية التي تجري حاليا على شكل “حرب” حقيقية “استبيح” فيه كل شيء من أجل الظفر بكرسي النقيب في أكبر هيئة بالمغرب..

“أنت بيدوفيلي”..

“أنت لص”..

“أنت سرقت الملايير”..

“أنت سطوت على أموال المساعدة القضائية”..

“أنت تدافع عن وزارة الداخلية رغم أنك تنتمي لتيار سياسي معارض”..

نعم إنها اتهامات متبادلة بين بعض المرشحين ما دام الزمن الانتخابي يبرر كل أنواع الضرب تحت الحزام وربما يبرر حتى “القتل” الرمزي بكل أشكاله..

ولأن مصدر هذه الأموال الكثيرة غير معروف، فقد سمعنا أن مرشحين أقاموا ولائم من ألف ليلة وليلة بأفخم الفنادق وبميزانيات “كاش” لا تعرف ربما عنها مصالح الضرائب أي شيء..

كما سمعنا أيضا أن مرشحين آخرين نظموا لقاءات وعشاءات انتخابية غير تقليدية استعانوا فيها ب”الدرون” لتصوير وتوثيق مرورهم من أماكن راقية وبتكلفة مالية لا سقف لها..

كما سمعنا أيضا أن مرشحين آخرين وزعوا وعودا زعموا فيها أنهم سيحلون مشاكل كبرى ومعقدة لم تستطع حتى الدولة أن تحلها..

أكثر من هذا، لقد سمعنا أيضا أنباء حتى عن اضطهاد وابتزاز و”احتجاز” لمحامين ومحاميات رفضوا الاصطفاف مع هذا المرشح أو ذاك..

بل سمعنا أيضا أن مرشحا اتصل بمحامية متزوجة في وقت متأخر من الليل وطلب منها أن تستيقظ من نومها، على الفور، لتنشر صورته على حسابها بالفايسبوك لتؤكد له علانية وأمام الجميع أنها ستصوت له..

باختصار شديد، لقد سمعنا عجائب كثيرة وغرائب كثيرة..

وربما لا أبالغ إذا قلت إننا سمعنا أيضا أنباء حتى عن ممارسات “بلطجية” يريد أصحابها أن يختبئوا خلف أسوار المهنة لحماية أنفسهم من كل مكروه قادم..

كما أني لا أفهم أيضا كيف يترشح لمهمة تطوعية نقباء سابقون لا يسجل لهم التاريخ ربما أي شيء في الحصيلة عدا الأصفار بعضها فوق بعض على الشمال..

المهم، وأنا أتأمل بعض البروفايلات المتبارية حول مقعد النقيب للعاصمة الاقتصادية بالمغرب، أعترف أني أصبت بالذهول وبالإحباط أيضا.

وكيف لا يقع هذا الإحباط وأنت تسمع أن بعض المحامين المرشحين للأجهزة القيادية بهذه الهيئة الكبيرة ليست لهم مكاتب ولا كاتبة وليست لهم ربما حتى عناوين قارة..

وبالفعل إن الأمر أشبه ربما بمأساة في مسار مهنة كانت بالأمس القريب شبه محراب ولا تلجها سوى الأصوات النقية..

ولا تلجها سوى الأصوات المزعجة..

ولا تلجها سوى الأصوات الحقوقية..

بل لا تلجها سوى الأصوات الغاضبة والمعارضة ل”الستاتيكو” والحاملة لتصور ولرؤية حول المجتمع وحول الحياة..

أما اليوم فقد كادت مهنة المحاماة أن تصبح مهنة من لا مهنة له..

وأكاد أقول أيضا إن المهنة أصبحت مهنة الكثير من السماسرة ومن الوسطاء ومن أصحاب “الملفات” أو الذين بعدت عليهم الشقة أو فشلوا أو تقاعدوا في مهن أخرى..

ومن ذا الذي لا ينتابه هذا الإحباط وهو يرى هذه العينة الجديدة من “النقباء” الذين ليست لهم تجربة سياسية ولا نقابية ولا جمعوية ولا حقوقية ولا هم يحزنون.

إنهم “نقباء” لا غير ولا يدافعون لا عن محاكمات عادلة ولا عن انتقال ديمقراطي ولا عن حقوق ولا عن حريات ولا عن وطن يتسع لجميع أبنائه..

إذ كل هم بعض المرشحين لمهمة النقيب هو الحلم بأن يترافعوا لفائدة أكبر عدد ممكن من الزبناء ومن الشركات الكبرى ومن مؤسسات الدولة حتى ضد مواطنين من بسطاء الناس..

كما أن هم بعض المرشحين هو أن يكونوا “نقباء” لكن بدون رأي وبدون فكرة وبدون مشروع وبدون موقف في أي قضية صغيرة أو كبيرة.

ولكم أن تلاحظوا كيف أن “انتخابات” هذه المهنة الشريفة والمقدسة لم تعد سوى سلسلة غداءات وعشاءات ومسطرة شكلية بلا جوهر وبلا مضمون مهني وقيمي مضاد ل”الانفلات”..

وربما لهذا السبب بالتحديد تمر العملية الانتخابية اليوم داخل هذا الجسم غير العادي بالدار البيضاء وما أدراك ما الدار البيضاء دون أن تنتبه إليها لا أجهزة ولا سلطة ولا دولة ولا مواطنون ولا حتى محامون..

يقع كل هذا الذي يقع كما لو أن الأمر يتعلق بحفل “خطوبة” وليس بانتخابات مهنة لازالت تزخر بالأسماء وبالكفاءات وبالطاقات الكثيرة والمؤهلة والمحترمة أيضا..

بل إن الأمر يتعلق بانتخابات مهنة كانت وستظل، دائما بخيرة رجالها ونسائها، ضمير مجتمع بكامله.