سامي كليب يكتب: رحل أحرضان وبقيت اللوحة
حين وصلتُ إلى المغرب باحثاً عن تاريخ الأمازيغ وحاضرهم، لم يكن يوجد بعد أيُّ حزب سياسي لهم فيها، ولا جمعيات ذات صبغة سياسية، مع أنّ أحد الوجوه الأمازيغية البارزة، وهو المحجوبي أحرضان، كان قد وصل إلى مرتبة عليا في السلطة، وبات رئيساً لمجلس النوّاب، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
ذهبت للقاء أحرضان في منزله الجميل الأنيق، والمزيّن بلوحاتٍ جميلة رسمها بنفسه. رحت أجول في المنزل أشاهد اللوحات ومعانيها.
لفَتَني أنّ معظم لوحاته تركّز على العين البشرية. لوحات كثيرة وعيون كثيرة تنظر في اتّجاهات مختلفة. انتبهتُ إلى أنّني توقفتُ عند إحداها وأغربها. قال لي: «هذه هديّتك، ستأخذها معك». شكرتُه، وقلت له: «اعذرني، فأنا أقسمتُ في هذه المهنة على أن لا أقبَل أيَّ هديّة، احتراماً لأخلاق الصحافة الحقيقية». أصرّ، فشكرتُه مجدّداً وكرّرت جوابي. ثمّ خطرت لي فكرةٌ حين علِمت أنّه متوقف عن الرسم منذ سنوات.
اقترحتُ عليه أن يرسم لي لوحةً ونحن نتحدّث، وسوف أقبلُها هديّةً. ابتسم وراقته الفكرة. وهذا ما حصل. رسم لي لوحة فيها عشرات العيون. فرِحتُ به وبعودته إلى الرسم.
كان هذا مقصدي، أنْ أشجّعه على العودة، وأن أصوّره وهو يرسم. أخذتُ اللوحةَ وذهبتُ إلى باريس ومنها إلى بيروت. مررتُ بالتفتيش الحدودي في باريس. نسيت اللوحةَ في آلة التفتيش الشعاعي. انتبهتُ إلى أنّي نسيتُها بعد ربع ساعة. عدتُ لآخذَها، لكنّها اختفت. يبدو أنّ مسافراً بعدي سرقها، من دون أن ينتبه إليه أحد. حزنت حزناً شديداً، فلهذه اللوحة تحديداً ذكرى عزيزة على قلبي، وهي هديّتي الأولى من أمازيغ المغرب.
عدتُ بعد عامين إلى المملكة، لأشارك في تأسيس إذاعة «أتلانتيك» الاقتصادية السياسية. وصلتُ في شهر رمضان. وهو شهر جميلٌ جدّاً هنا، لناحية العادات والتقاليد والمأكل والحلويات والأجواء الرمضانية الرائعة. أجرتْ معي إحدى الصحف المغربية حوارات امتدت لثلاثين يوما متتالية عن تجربتي الإعلامية. سألتْني عن أجمل وأصعب ذكرى لي في المملكة.
تحدّثتُ عن صعوبة العمل في عهد الملك الحسن الثاني، حيث كان التشدّد والقمع، وعن سهولته في عهد الملك الجديد المنفتح والقريب من ناسه. وذكرتُ قصّتي مع اللوحة. لم تمضِ ٢٤ ساعة حتى جاءني اتّصالٌ من أحرضان يقول لي: «أخي سامي، أهلاً بك في بلادي، أنا أنتظرك غداً على الغداء مع مجموعة أصدقاء، ولك عندي مفاجأة».
ذهبت في اليوم التالي، فوجدته قد رسم لي لوحة ثانية، قدّمها لي وهو يضحك وقال: «لقد قرأتُ قصّتك مع اللوحة السابقة، وحزنتُ مثلك، لكنّي أريدكَ ان تحتفظ في بيتك بشيء من عندي». كيف يمكن للمرء أن ينسى اتّصالاً أوليّاً كهذا مع أحد القادة السياسيين العريقين في المملكة، وأحد أبرز قادة الأمازيغ. أتفرِّقُ الأخلاق الحسنة والمحبّة والضيافة بين أمازيغي وعربي؟
علّمني المحجوبي أحرضان السياسي والشاعر والرسّام، الشيءَ الكثير عن المغرب والأمازيغ. قال لي: «إنّ مسيرتي كانت دائماً سياسية، لكي أفرض الثقافة، ولكنّها أصبحت مع الوقت ثقافيةً أكثر منها سياسية».
غالباً ما يتحدّث أحرضان باللغة الفرنسية (زوجته فرنسية) ويكتب بالفرنسية والأمازيغية، لكنّه يفاخر بحفظه القرآن الكريم. يقول أحرضان إنّه ناضل طويلاً لفرض اللغة الأمازيغية، وإنّه ناقش طويلاً الملك الحسن الثاني، صديقه وخصمه في آن واحد، في هذا الشأن، لكنّ معارضيه يقولون إنّه وغيره من قادة الأمازيغ الذين انضووا في إطار العرش، إنّما جاروا السلطة السابقة في عمليات التهميش.
أعجبتني ثقافته المتنوعة، وشخصيته المتمردة، ومعرفته الدقيقة بالكثير من الأمور، وأعجبني حبه للحياة. أوحى لي بأنه أرستقراطي المظهر لكنه يملك طيبة ابن الأرض. سريعُ البديهة، يختارُ كلماته من القواميس الفرنسية القديمة، حتى ليكاد يتقنها أكثر من معظم الفرنسيين. ناقشته بمفهومه للسلطة وتغطيته لبعض أخطاء الملك الراحل حيال شعبه، فدافع بشدة عن أفكاره، وقال انه اصطدم بالملك مرارا، لكنه كان يفضل ان يصطدم معه داخل الغرف المغلقة وليس في الشارع، وقال انه كان أكثر الذين كانوا يقولون للملك حقيقة ما يفكرون به، وكان الحسن الثاني يغضب في بعض المرات لكنه يقبل في نهاية الأمر. ليس دائما.
كان المحجوبي أحرضان يحدثني عن أحلامه السياسة وعن حزبه وحركته الشعبية كأنه ما زال في مقتبل العمر، وكنت انظر الى تجاعيد وجهه والى خطوط العمر على يديه، والى جلبابه المغربي التقليدي العريق، ثم انظر الى لوحاته الجميلة المعلقة على حيطان منزله، وأقول في نفسي، ان كل شيء زائل مهما بلغ من مجد، فالملك رحل قبله بكل ما تركه من ثقافة عميقة موسوعية ودور سياسي كبير وعلاقة صعبة مع شعبه تمايلت بين الاحترام لمكانته ( السياسية والدينية) ولثقافته والخوف من غضبه، وها هو العمر يتقدم بصديقه المحجوبي، تاركا خلفه لوحات تحمل عيونا تنظر الى الكون. هي تبقى والجميع راحل.
كلما زرتُ المغرب كنت أسال عنه أو اتواصل معه، وكانت كلماته لي دائما حاملة الكثير من المحبة وروح الأرض .
لا تزال لوحته في بيتي البيروتي، تزيّن صالون الاستقبال. وكلما نظرتُ إليها، تذكّرتُ تلك الأيّام الرائعة عند أحرضان وغيره من الأمازيغ الذين كانوا وما زالوا متجذرين في تلك الأرض التي دافعوا عنها برمش العيون مع إخوانهم العرب. لا فرق بين عربي وأمازيغي الا بما أراده المستعمر وكل كاره لتلك البلاد الساحرة.
رحم الله المججوبي احرضان وغفر له، وكل تعازي القلبية لعائلته وحزبه وكل من احبه او اختلف معه.