الخبر من زاوية أخرى

عصر المعلومة المفبركة (الفايكنيوز)

Avatarلحسن حداد


مرحبا بنا جميعا في عصر "المعلومة المفبركة"! لم تنشأ "المعلومات المفبركة" فقط إبان حملات ترامب الانتخابية أو إبان استفتاء البريكسيت البريطاني. بل إنها أداة قديمة استعملها الفرس والإغريق والرومان والعرب ورواد الإصلاح في أوربا والمتحاربون إبان الحرب الأهلية الأمريكية وإبان الحرب العالمية الأولى والثانية وخلال وبعد الثورة البولشفية وبطبيعة الحال في فترة حكم الرايخ الثالث…
 
ضاريوس الأول (أو ضاريوس الأكبر) الذي حكم بلاد فارس ما بين 522 و 486 قبل الميلاد، كان أول من استعمل "المعلومات المفبركة" لإعطاء الشرعية لصعوده للحكم. جداريات جبل بيستون في منطقة كيرمانشاه غرب إيران (والتي هي من صياغة ضاريوس بثلاث لغات: الفارسية القديمة والألامية والبابلونية) تحكي كيف أنه قتل بارديا الوريث الشرعي لحكم سايروس لأن بارديا لم يكن إلا ساحرا (اسمه كوماتا) تقمص جسد بارديا، بينما بارديا الحقيقي مات بطريقة سرية على يد أمير آخر (كما فصل ذلك ناكل براندن في كتابه "العالم القديم: قراءات في التاريخ الثقافي والاجتماعي"، 2009).  
 
في كتابه "الصراع الدعائي بين اوكتافيوس وماركوس انطونيوس" (2016) تطرق لويك بورجي بتفصيل لاستعمال الطرفين للمعلومات المفبركة حول "الأصول المنحطة والغامضة" للطرف الآخر، و تهم العنف والجبن والاستبداد وعدم التمكن من فن الخطابة والفساد الأخلاقي والسكر والترف المفرط وغيرها وذلك إبان الحرب الأهلية الرومانية من 44 إلى 30 قبل الميلاد.   
 
الدولة الأموية والعباسية تفننتا في خلق دعايات حول الحركات المتمردة، خصوصا الشيعة، لإيجاد الشرعية السياسية لقمعها. إسبانيا المسيحية نسجت العديد من "الصور المفبركة" اللموروس (أي المسلمين القادمين من المغرب) لتسهيل عملية "إعادة الاسترجاع" التي انتظرها المسيحيون لقرون. الكنيسة الكاثوليكية وحركات الإصلاح المسيحي خلقوا تيارا متكاملا حول فساد وصكوك غفران الأولى وهرطقة الثانية.  صورة "اليهودي" في الأداب الأوربية والكتابات الصفراء، منذ شكسبير وخلال القرون الموالية  هو ما خلق السمك التاريخي والايديولوجي للإبادة الجماعية لليهود عن طريق المحرقة التي هندس لها هتلر بعناية إجرامية.  ولايات الشمال  وولايات الجنوب المتحاربة فيما بين 1860 و 1865 في أمريكا استعملوا شبكة متطورة من الصحف والمطبوعات الدعائية لتعميم صور حول الانحلال الأخلاقي للشماليين وحبهم للسود وحول همجية وتخلف الجنوبيين. البولشيفيون وضعوا سياسة رسمية للدعاية اعتمدت خصوصا على السينما ولكن كذلك على وسائل أدبية وفنية أخرى ("سفينة  بوتمكين" لإزنشتاين هو في الأصل فيلم دعائي رغم جانبه التقني والفني المتطور). 
 
الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة اختلقا "الأخبار الكاذبة" حول بعضهما البعض وووضعا مؤسسات مهمتها الدعاية وخلق المعلومات والمواضيع وتسريبها لوسائل الإعلام والرأي العام؛ بل أن المركز الثقافية كانت مهتمها هي نشر هذه الأخبار وإيجاد من يهتم بها خصوصا في دول العالم الثالث. 
 
لكن أكبر "مدرسة" في  "المعلومات المفبركة" هم النازيون. يقول المؤرخ روبيرت إنسور أن "هتلر لم يضع حدا لما يمكن القيام به عبر الدعاية؛ فالناس سيصدقون أي شيء، شريطة تكراره بشكل منتظم و التأكيد عليه؛ وشريطة إسكات المعارضين أو الافتراء عليهم" ("تاريخ مصغر للحرب إلى حين تحرير باريز"). 
جوزيف كوبلز وزير هتلر المكلف ب"الدعاية وتنوير الجماهير" قال بأنه "إن كررت قول كذبة مرارا ومرار فإنها ستصبح حقيقة." 
 
هكذا غسل النازيون عقول الألمان لكي يؤسسوا لقاعدة شعبية لإبادة اليهود ودعم مجهود الحرب و تثبيت النزعة العنصرية ومقولة تفوق الجنس الآري لدى عموم الناس. 
 
إذا "المعلومات الكاذبة" هي وسيلة مألوفة منذ زمان يلجأ إليها الفرقاء لتدبير خلافاتهم عبر نوع من الضرب تحت الحزام والتأثير في آراء وسلوك من يعنيهم الأمر. ماذا حصل الآن؟ لماذا الخوف من المعلومات الكاذبة في الوقت الحاضر؟ في السابق كانت عملية إنتاج المعلومات الكاذبة يقوم بها فريق متخصص أو مجموعات موالية أو إدارة تكمن مهمتها في إنتاج وتسريب معلومات مضرة بالخصوم أو مسهلة لعملية معينة. الآن أصبح من له هاتف نقال ذكي وحساب على الفايسبوك قادر على إنتاج المعلومات. مابين يوتوب وفايسبوك وجوجل وواتساب وانستجرام ولينكند إين وياهو وتويتر وسنابتشات هناك حوالي خمسة مليار حساب رقمي وأو مستعمل. إذا عشرة في المائة فقط من هؤلاء ينتجون معلومة وعشر (1/10) هؤلاء ينتج  "معلومات كاذبة" فإن حوالي 25 مليون شخص قادرون على إنتاج 250 مليون كذبة في السنة إن افترضنا أن كل واحد منهم ينتج عشرة معلومات خاطئة في السنة. هذا الكم الهائل من المعلومات قادر على إنتاج واقع آخر، "حقيقة بديلة" (كما سمتها مستشارة ترامب، كالي آن كونواي)، عالم سوريالي قادر على زعزعة العالم "الحقيقي" كما نعرفه. 
 
لماذا أصبحت "المعلومات الكاذبة" مغرية؟ أولا، لأنها أثبتت فاعليتها كسلاح فتاك يقلب موازين القوى السياسية وتؤثر في الرأي العام بشكل أقوى من المعلومات "الصحيحة". ثانيا، لأنها أقرب إلى تمثلنا للواقع حيث تكون لنا صورة معينة ومبتورة للواقع، وتأتي "المعلومات الكاذبة" التي نصنعها  لتأكيد هذه الصورة. تالثا، لأن "المعلومات الكاذبة" عادة ما تكون قصيرة ومرفوقة بصور ومرفقات أخرى تسهل من استيعابها. رابعا، لأنها تنتشر بسرعة ويتم تكرارها وإعادة إنتاجها حتى تصبح حقيقة مسلم بها (كما قال جوبلز). خامسا، لأن "المعلومة الكاذبة" تعطي سلطة لمن لا سلطة له، خصوصا الشباب الساخط على الوضع، والطبقات المهمشة والتي تنظر إلى من لهم المال والسلطة على أنهم يستغلون الشعوب والمجموعات المستضعفة. سادسا، لأن "المعلومات الكاذبة"، وإن تم إنتاجها من طرف شخص أو مجموعة، فإنها تصبح ملكا مشتركا يمكن لأي كان أن يتبناه ويشارك الغير في التعرف عليه. 
 
ما العمل إذا؟ أولا، على الصحفيين ورجال ونساء الإعلام والمدونين ألا يستسلموا لتراكم المعلومات الكاذبة و ألا ينخرطوا فيها؛ عليهم مسؤولية كبيرة لتبيان الحق من الباطل مهما كلف ذلك من ثمن. ثانيا، على المحركات الكبرى مثل جوجل ويوتوب وغيرها ووسائل التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك وغيرها أن توجد وسائل رقمية ناجعة للتأكد من هويات المستعملبن و حذف الحسابات الكاذبة ومحاربة انتقال الأخبار الزائفة بتعاون مع المستعملين. ثالثا، على المجتمع المدني والمجموعات الرقمية والتواصلية أن تقوم بواجبها من حيث التوعية ومساءلة من ينشر أخبارا كاذبة؛ رابعا، على المستعملين أن يؤسسوا لمجموعات وجمعيات رقمية تشتغل بأخلاقيات جديدة قوامها احترام الحياة الشخصية للأفراد وحماية أعراض الناس وعدم التعاطي للمعلومان الغير المتأكد من صحتها. خامسا، على المدرسة والعائلة والحزب والنادي ودار الشباب أن يلعبوا دورهم في توعية الأجيال الصاعدة والشباب بضرورة احترام الحقيقة وعدم افتعال الأخبار وعدم التشهير بالناس. سادسا، على الحكومات أن تضع تسن القوانين اللازمة لحماية المواطن من تأثير المعلومات الكاذبة ومعاقبة من يصنعها ومن ينشرها، كما عليها سن سياسة لتنظيم استعمال العالم الافتراضي استعمالا سليما في إطار الحرية الفكرية واحترام سلامة الأشخاص وحياتهم الخاصة. 
 
"المعلومات الكاذبة" أصبحت إشكالية حقيقية خصوصا بالنسبة للأنظمة الديمقراطية. والديمقراطية لا تزدهر في غياب ضمان حق المواطن في المعلومة الصحيحة وغياب نظام يحمي الحياة الخاصة للأفراد والعائلات والمجموعات وحماية الحقوق، خصوصا الحق في عدم التعرض لهجوم مجاني عبر وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي. تكنولوجيا التواصل خلقت هوامش عريضة مهمة فيما يخص حرية التعبير والولوج إلى المعلومة ولكن آن الأوان لاستعمالها استعمالا يضمن حقوق الأفراد والمؤسسات وحريتهم كذلك. وهذا يتطلب مجهودا جماعيا يحافظ على المكتسبات في إطار مجتمعات تضمن للكل حقوقه وفي نفس تحمي الكل من بطش وغزو اللاحقيقة والكذب المنظم.