“صراع” النيابة العامة ووزارة العدل.. عبد النباوي يخرج عن صمته عبر “آذار”
– أثار المنشور الخاص باحترام التسلسل الإداري الذي وجهتموه باعتباركم رئيسا لمؤسسة النيابة العامة للمملكة إلى المسؤولين القضائيين ضجة واسعة حتى أن هناك من تحدث عن اصطدام بينكم وبين وزارة العدل؟ ما هو ردكم؟
= دعني ابتداء أن أتمنى لكم التوفيق والنجاح في تجربتكم الإعلامية الجديدة "آذار". أما بخصوص سؤالكم، فأنا أقول لك إنه لا يوجد أي اصطدام بين رئاسة النيابة العامة ووزارة العدل.
على العكس من ذلك تماما. هناك تفاهم وتعاون مستمران.
وهذا المنشور جاء لتوضيح بعض الممارسات العادية في التسيير التي لم يتم الانتباه إلى التغيير الذي حدث بشأنها نتيجة للتعديلات الدستورية والقانونية الجديدة التي أصبحت نافذة وترتب عنها إسناد بعض الاختصاصات المتعلقة بالشأن القضائي إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبعضها الآخر إلى رئاسة النيابة العامة، واحتفظت السلطة الحكومية المكلفة بالعدل ببعض الصلاحيات الأخرى.
غير أن بعض الممارسين بالنيابات العامة، وليسوا كلهم، لم يستحضروا هذه التغييرات في طريقة عملهم، مما تسبب في بعض الارتباك.
وهو ما كان يستدعي التذكير بالقواعد العامة للتدبير القضائي من أجل الانسجام مع المقتضيات الدستورية والقانونية الجديدة.
ولذلك فالمنشور لا يعني وزارة العدل في شيئ. وبالنسبة إلينا فالأمور واضحة لأن ممارسة المهام القضائية لا علاقة لها بالإدارة، والمسؤول عنها هو القضاء (بشقيه قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة) الذي يتم تسييره من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو رئاسة النيابة العامة، تبعا لما خوله القانون من اختصاصات لكل منهما.
وأما ما يسمى "بالإدارة القضائية" والذي يهم السير الإداري للمحاكم، دون أن يمس الاختصاصات القضائية الموكولة للسلطة القضائية وحدها (ممثلة في المجلس ورئاسة النيابة العامة)، فقد نصت المادة 54 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أنها، أي الإدارة القضائية، تكون موضوع تنسيق بين هذا المجلس والوزارة المكلفة بالعدل بواسطة "هيئة مشتركة"، سيصدر قرار مشترك بين الرئيس المنتدب للمجلس والوزير المكلف بالعدل لتحديد تأليفها واختصاصها.
وفي انتظار ذلك، فإن التواصل مستمر مع أجهزة وزارة العدل لحل الإشكاليات التي تطرأ. وهذا أمر طبيعي. فكل تغيير في الوضعيات القانونية والمؤسساتية تنشأ عنه صعوبات وفراغات يتم حلها بالتفاهم استنادا للقانون ومراعاة للمصالح العليا للوطن.
وبالطبع فهناك كثير من الأمور قد يقع اختلاف في تأويل طبيعتها القضائية أو الإدارية. بمعنى أنه يجب تحديد مفهوم الإدارة القضائية الذي يتم تنسيق تدبيره بين السلطة القضائية وإدارة العدل، قبل أن يستقر وضعها.
ونحن نعول على الحوار القانوني الذي يستحضر المصلحة العليا للوطن والمواطنين وروح الدستور، لتحديد طبيعتها الحقيقية.
أي أن التأويل القانوني ينبغي أن يستحضر هذه المصالح الأساسية حتى لا يتضرر المواطنون أو حسن سير العدالة من تقسيم السلط الذي يجري تطبيقه حاليا.
– هل أفهم من هذا الاحتكاك أو هذا الاصطدام الذي وقع بينكم وبين وزارة العدل بمثابة مؤشر على أن قرار فصل النيابة العامة عن الوزارة كان فيه بعض التسرع أو ربما كان خطأ؟
= أؤكد لك أنه ليس هناك أي احتكاك. ولكن الأمر يهم بناء مؤسسة دستورية جديدة ونقل بعض السلطات إليها كانت تمارسها سلطة أخرى.
ومن الطبيعي في مثل هذه الأحوال توضيح بعض المقاصد وتفسير بعض الإجراءات للممارسين لغاية استقرار بناء المؤسسة الجديدة. وآنذاك تصبح الأمور عادية.
فما تناوله المنشور موضوع تساؤلاتكم كان معمولاً به بين النيابات العامة ووزير العدل قبل نقل السلطات التي كانت له على النيابة العامة إلى الوكيل العام للملك.
ومن الطبيعي أن يستمر العمل به مع الرئيس الجديد للنيابة العامة.
أما فيما يتعلق بحديثكم عن الاستعجال والتسرع، فانا أرى الأمر خلاف ذلك. لأن استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية أسسه دستور فاتح يوليوز 2011.
وقد تأخر تنزيله على أرض الواقع أكثر من ست سنوات (بين فاتح يوليوز 2011 و 7 أكتوبر 2017 ). وخلال كل هذه المدة الطويلة تمت مناقشة الموضوع طولا وعرْضا من جميع جوانبه، سواءً على المستوى الشعبي من طرف التنظيمات والجمعيات والأفراد عبر مختلف المنابر، أو على المستوى الرسمي بواسطة المؤسسات الوطنية كالهيأة العليا للحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وهيئات المحامين والأحزاب السياسية والجامعات.. أو على المستوى المؤسساتي من طرف مجلس الحكومة ومجلس الوزراء والبرلمان وانتهاء بالمجلس الدستوري.
ثم انتهى الأمر بنشر القانونين التنظيميين للمجلس الأعلى للقضاء والنظام الأساسي للقضاة في أبريل2016. وبعد ذلك بعام كامل، تم تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ثم ستة أشهر أخرى لنقل السلط المتعلقة برئاسة النيابة العامة.
وهكذا إذن يتضح بجلاء انه لم يكن هناك أي تسرع، بالعكس، إذ يلاحظ أنه لم يحدث قط في تاريخ بلادنا أن نال موضوع من المواضيع مثل هذا الحجم من النقاش وكل هذا الوقت لتفعيل مقتضى دستوري كان يجب تطبيقه فورا بعد إقرار نتائج الاستفتاء الدستوري.
بمعنى أنه لم يكن أبدا أي تسرع. كل ما في الأمر أنه ربما لم تستغل الفترات الماضية بالشكل اللازم لوضع تدابير التنفيذ وتوفير الوسائل والمقرات والموظفين من أجل تسهيل انطلاق المؤسسة الجديدة بهدوء في إبانها.
كما لم يتم توضيح مهام هذه المؤسسة وحجم مسؤولياتها وحدود مسؤولياتها للرأي العام بشكل كاف وهادئ.
وأما قولكم بأنه قرار خاطئ. فهذا سيحكم عليه الزمن. ولكنني شخصياً لا أعتقد أن دعم استقلال القضاء يشكل خطأ، في الوقت الذي تؤكده كل المواثيق الدولية المعنية بالعدالة و بحقوق الإنسان ودساتير الدول الديمقراطية، وفي الوقت الذي نتلقى عنه التهاني في كل لقاءاتنا مع وفود دول صديقة ومن منظمات دولية.
وعلى كل حال فهذا مجرد رأيي الشخصي. ولكل رأيه. وأنا احترم كل الآراء مادامت مجرد آراء ولا تتعدى ذلك لتصبح أفعالا مخالفة للدستور والقانون.
– وما هو ردك على من تحدث أيضا عن وجود استياء وسط بعض القضاة الذين اعتبروا منشوركم الأخير حول التسلسل الإداري وصاية عليهم وتدخلا في عملهم الذي ينظمه القانون؟
= أنا اعتذر ولن أجيب عن هذا السؤال لأن الأمر يتعلق بشأن داخلي يهم بعض القضاة في علاقتهم برئاستهم ولا يمكن أن يصبح هذا الأمر الداخلي حديثاً عاماً لأنه لا يخص الرأي العام.
وانا لا أُخطئ أي رأي من هذه الآراء واحترمها جميعاُ. بل أعتبرها ظاهرة صحية داخل الجسم القضائي تدخل الاطمئنان في نفسي.
وأفتخر بقضاتنا لأنهم يتفاعلون مع الأحداث ويناقشونها بحرية وفي إطار القانون ولا يتقبلونها كأمر واقع.
وهذا دليل على أن القضاة قادرون على استعمال استقلالهم لصالح العدالة وقيم الإنصاف والتمسك به باعتباره ملكاً مجتمعياً.
ولكنني أعتقد اننا يمكن أن نناقش هذا الموضوع بعيدا عن وسائل الإعلام. وسأكون مسرورا باستقبال ملاحظاتهم كتابة أو مباشرة إذا طلبوا مقابلتي لمثل هذه المواضيع.
وليثقوا بي فأنا أمتلك الشجاعة الأدبية الكافية لتصحيح أي خطأ يكون قد تضمنه هذا المنشور أو غيره.
وأما من لم يعجبه هذا الأسلوب في التحاور بين القضاة، فهناك المجلس الأعلى للسلطة القضائية المؤتمن على ضمان استقلال القضاة، الذي يمكن مخاطبته مباشرة.
ولذلك فأنا لا أتفق مع من يريد مناقشة هذا الموضوع عبر وسائل الإعلام رغم أنه شأن قضائي داخلي يهم قضاة النيابة العامة وحدهم..
وزيادة على ذلك فإن الكثير من التعليقات التي قرأتها، وهي ربما ليستْ صادرة عن قضاة، نسبت إلى المنشور أشياء لم ترد به.
والحقيقة أن الفقرة التي وقع انتقادها كانت تتحدث عن التغيب عن العمل للمشاركة في أنشطة أخرى ودون علم السلطة الرئاسية.. ولم تكن تحظر على قضاة النيابة العامة المشاركة في بعض الأنشطة العلمية أيام عطلهم.. رغم أنه حتى خارج أوقات العمل يتم حضور البعض منهم لتلك الأنشطة بصفته القضائية لا بغيرها، مما يقتضي أن يعلم رؤساءه بمشاركته فيها.
ولا أريد أن أزيد في تفاصيل هذا النقاش علناً. ولعل بعض زملائي الذين يحتاجون لتوضيح بعض الأمور سيتصلون برئاسة النيابة من أجل ذلك.
وبالطبع سأكون مسرورا للاستماع إليهم والتفكير جديا في ملاحظاتهم وإصلاح أو توضيح ما قد يشكل خطأ أو ما يكتنفه غموضٌ.
وبعيداً عن هذه الانتقادات المحدودة، فقد تلقيت سيلا من التهاني والإشادات بمضمون المنشور، بل إن الكثيربن قالوا إنه تأخر كثيراً، فيما رأى آخرون أن هذا المنشور يعيد الاعتبار لقضاة النيابة العامة ويهدف إلى ضمان استقلالهم والحفاظ على هيبة مهنتهم… ناهيكم عن الأغلبية الصامتة التي لم تفصح عن رأيها صراحة.
وهكذا يلاحظ أن النقاش داخل الجسم القضائي أمر حيوي. ولكنه، في رأيي، يجب أن يراعي أصول المهنة ويتم داخل البيت وفي إطار المؤسسات والقانون ما دام أنه لا تأثير له على مصالح المواطنين ويهم فقط الفئة المهنية المعنية به.
ثم إن رئاسة النيابة العامة أصدرت يوم 2 يناير ثلاثة منشورات. الأول يهم تطبيق المرسوم الجديد المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة. والمنشور الثاني يتضمن تعليمات للنيابات العامة بإشعار وزير العدل بالمخالفات التي يرتكبها الاشخاص المنتمون لبعض المهن القضائية الذين تمارس الوزارة بشأن وضعياتهم بعض الاختصاصات التأديبية أو التنظيمية.
وهناك هذا المنشور الثالث المتعلق باحترام التسلسل الرئاسي الذي كان هو الوحيد الذي وقع تسريبه إلى الإعلام لتثار حوله هذه الضجة دون أن أعرف سبب ذلك.
ومن حق كل واحد أن يفهم ما يريد أو ما يستطيع فهمه. وأما أنا فأتساءل عما إذا كانت المنشورات الداخلية للمؤسسات تعتبر كلها شأنا مجتمعيا ولو كانت تهم فقط تأطير المهنة داخليا ولا تمس مصالح الرأي العام في شيء؟.
وفي هذه الحالة كان يتعين تسريب المنشورات الثلاثة وليس الاكتفاء بتسريب واحد. ويجب كذلك تعميم كل الدوريات الصادرة عن جميع الإدارات والمؤسسات.
وهذا في نظري غير معقول لأن من شأنه أن يشوش على الرأي العام بأمور خاصة جدا ولها قنوات مهنية لحلها.
وعلى كل حال، فأنا أحترم كل الآراء المخالفة، ولكنني سأتمسك بالدستور والقانون في تدبير مثل هذه الوضعيات.