“آذار”.. لماذا هذه التجربة الإعلامية الجديدة؟
صحيح أن الاستثمار في الصحافة هو مغامرة لا يقدم عليها إلا "مجنون"، أما المستثمر العاقل فلا يرنّ في أذنه إلا صوت يبشّر بالربح ولا شيء غير الربح.
وهذا فهم مغرق في "التقليدانية" لمعنى الربح والتجارة و"البزنس".
لماذا؟
لأن دور الصحافة هو أكبر بكثير من هذا الفهم الضيق الذي يختزل "الربح" في العائد المادي الصرف، رغم أهميته، وينسى "الخدمات اللامادية الكبرى" التي تؤديها "مهنة المتاعب" في حياة الشعوب والمجتمعات المتعطشة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وربما لهذا السبب كانت الصحافة وستظل إلى "يوم القيامة" ذلك العدو رقم واحد لكل الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تعتبر "المقاربة الأمنية" هي الحل في "سياسة الرعية السائبة"، أما باقي المقاربات فمجرد مضيعة للوقت.
طبعا، نتحدث هنا عن الصحافة الجادة التي تأخذ على عاتقها مهمة تنوير الرأي العام ليس باعتبارها سلطة رابعة، بل باعتبارها سلطة مضادة لما عداها من السلط، سواء كانت قضائية أم تشريعية أم تنفيذية.
ونحن، في هذه التجربة الإعلامية الإلكترونة الجديدة، التي أطلقنا عليها اسم "آذار"، نعتبر أنفسنا امتدادا لهذا الجيل من الصحافيين الذي يزاول الصحافة بهذا الأفق الفكري الذي ينتصر للمهنة وأخلاقياتها وفق هذا الشعار الذهبي "لسنا مع الشيطان ولسنا ضد الشيطان لكننا مع القارئ".
أكثر من هذا، سنتعامل في "آذار" مع جميع الأطراف السياسية وغير السياسية على قدم المساواة لأننا صحافيون قد نؤثر في السياسة، لكن حتما لن نتحول إلى فاعلين سياسيين، لأن السياسة والصحافة بحران لا يلتقيان.
نعم، نعترف بأننا نخوض هذه التجربة الإلكترونية في ظرفية صعبة تشهد شبه انهيار للصحافة الورقية. لكن، رغمذلك، لا ينبغي أن نستسلم لضغط انهيار الصحافة الورقية لندخل بغير وعي في خصومة غير مبررة مع الصحافة الإلكترونية لا لشيء إلا لأنها أخذت مساحتها الطبيعية في المشهد الإعلامي في بلادنا وتكيفت مع ما يفرضه تطور تكنولوجيا الاتصال والتواصل والمعلومات؛ ولو أن رؤوس الأموال الموظفة في هذا القطاع الحيوي مازال لم يرق إلى المستوى المطلوب.
ولا نحتاج هنا لأن نذكر بالمفارقة الصارخة في الأرقام بين الصحافة الورقية، التي تستقطب بمجموع عناوينها المختلفة أقل من مليون قارئ، وبين الصحافة الإلكترونية، التي يصل منتوجها تقريبا إلى كل جهاز مرتبط بشبكة الإنترنت.
وهذا الأمر له ما يبرره لأنه يرتبط بسرعة تدفق الخبر وزمن النشر ووتيرته وانخفاض الكلفة وسهولة الولوج إلى المعلومة، دون أ ننسى الإمكانات التكنولوجية التي أوقعت المتابع في شرك "الإدمان" على منتوج الصحافة الإلكترونية.
قد تبدو هذه المفارقات كافية لتبرير الهجرة نحو الصحافة الإلكترونية، لكنّ الأهم منها جميعا هو ما يرتبط بالتأثير والدور الحيوي الذي أضحت تمثله الصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي في إحداث التحولات الاجتماعية العميقة.
كلنا يتذكر كيف تناسلت عدد من الدراسات واستطلاعات الرأي مع احتجاجات الربيع العربي، والتي ركزت على دور الصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي في التعبئة المجتمعية للانتفاضات الشعبية التي حدثت في كل من تونس ومصر واليمن.
ورغم اختلاف النتائج حول دور الصحافة الإلكترونية في صناعة الثورة أو توفير شروطها أو في تنسيق محاورها، فإن هناك حالة من الإجماع على أن هذه الانتفاضات ما كان لها أن تصل إلى زخمها الذي انتهت إليه من غير الأدوار التي قامت بها الصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي.
ولأن الأمر كذلك، فقد لجأت بعض الأنظمة العربية إلى قطع شبكة الإنترنت من أجل تحييد هذه الصحافة وشلّ دورها الحيوي في تغذية وقود الانتفاضات وتنسيق محاور الحراك.
مقابل ذلك، اتجهت بعض الأنظمة الأخرى ذات المنزع البراغماتي إلى التكيف مع هذا الواقع والاستثمار الاستباقي في خلق صحافة إلكترونية موازية أو اختراق صحافة قائمة من أجل المساهمة في توجيه مستقبل أي حراك شعبي ومنع مساره من الانزلاق إلى خيارات مغامرة أو فوضوية.
ولا نحتاج أن نبسط الكلام عن أثر هذا الإعلام الجديد في إحداث التحولات، فقد أظهرت التطورات الكبرى التي مر بها العالم العربي، ومر منها بلدنا المغرب أيضا، فعالية هذا الدور وقوة تأثيره.
لكنّ ما يهمنا هنا هو أن نرصد الأثر الذي صار يحدثه الإعلام الإلكتروني على المستوى السياسي من خلال الضغط الذي صار يمارسه بالصورة والصوت على صانعي القرار السياسي.
أكثر من هذا، لقد أصبح هذا الإعلام في نسخته الإلكترونية يدفع الساسة وصانعي القرار، في بعض الأحيان، إلى اتخاذ قرارات وإجراءات وسياسات لم تكن متوقعة؛ وفي أحيان أخرى، يصل التجاوب إلى مداه موضوعا وزمنا.
ولم يعد الإعلام الجديد يكتفي بتعرية المؤسسات والنخب والسياسات، بل أحيانا يغير أولويات للحكم والحكومة ويصنع أولويات أخرى غير التي كانت، ويُسقط الوزراء وخدام الدولة، ويحرج النخب الاقتصادية وبعض رموزها ويعمّق التناقضات.
ولا شك في أن صحافة من هذه الطبيعة القوية لا تخلو من سيئات، خاصة أن القدرة على ضبطها والتحكم فيها محدودة بالمقارنة مع الصحافة الورقية.
كما أن القدرة على حصر رقعة الجسم الصحفي المشتغل فيها أمر غير مقدور عليه، بحكم سعة الفضاء الإلكتروني وعدم وجود قيود تمنع المرء من صناعة الخبر وتوزيعه، بل وفي أحيان كثيرة، تحويل الخبر إلى أداة للابتزاز وتصفية الحسابات والارتزاق…
والحقيقة أن هذه العيوب والنقائص ليست طارئة، ولم تولد مع الصحافة الإلكترونية، وإنما هي ظاهرة وُلدت مع الصحافة الورقية ولم يستطع الجسم الصحافي التقليدي أن يحاربها.
بل إن الجسم الصحافي لم يستطع إلى اليوم أن يُخرج إلى الوجود "المجلس الوطني للصحافة"، الذي طالما تم التأكيد أنه سيمثل الضمير المهني المسؤول الذي سيعفي السلطة من أن تنجرّ إلى ترسيم معادلة الشد والجدب مع الصحافة.
نحتاج أن نعي أن هذه الخصومة غير مفيدة البتة للجسم الصحافي، وأن الأَولى أن نوسع الأفق ونُقر بنقط القوة والضعف في الصحافة الإلكترونية، والفرص التي تمثلها والتحديات التي تواجهها، حتى نضع خارطة الطريق للنهوض بها وتطويرها وإنضاج شروط الممارسة المهنية ضمنها.
صحيح أن طبيعة الصحافة الإلكترونية تختلف عن نظيرتها الورقية، فإمكان تأهيل الأولى وتقنينها أعقد، كما أن متطلبات ترشيدها والارتقاء بمهنيتها ومصداقيتها أصعب. لكنْ رغم ذلك، ليس لنا أي خيار لنبحث عن بدائل أخرى لعملية التقنين والنهوض بهذه الصحافة، حتى تساهم بدورها -كسلطة مستقلة بذاتها- في دعم الانتقال الديمقراطي ونقد مساره المتعثر، ورصد ونقد سلوك النخب والارتقاء بوعي المواطن وتحفيزه ليكون في عمق المشروع الديمقراطي.
نعم، سيبقى الحرج الدائم هو ذلك الذي تمثله حرية النشر الإلكتروني من جهة، ومتطلبات الأمن من جهة ثانية.
وهذا الحرج هو الذي سيُبرز إلى السطح صراع السلطة والصحافة، لنرى مدى التزامنا بقواعد المهنة وأخلاقياتها وما إذا كان الصحافيون سيأخذون زمام المبادرة لينظموا أنفسهم بأنفسهم عبر إحياء الضمير المهني ومأسسته، لتظل الصحافة مهنة الصحافيين فقط، لا مهنة الوزراء والبرلمانيين والمحامين وجميع الموظفين العموميين والمغاربة أجمعين