عندما كانت “المساء” حلما جميلا بسقف الوطن
قرأت لزميلي وصديقي الحسين يزي، الذي تقاسمت وإياه الجلوس، جنبا إلى جنب، في نفس “صالة” التحرير بجريدة “المساء”، مقالا “نبش” فيه ذاكرته..
طبعا ليست لي أي ملاحظة على بنية ولا على بناء هذا المقال سواء شكلا أو مضمونا..
ولكن ثمة مقاطع تضمنها مقال الحسين يزي لا تخلو ربما من بعض “التجني” وربما لا تخلو حتى من بعض “الإساءة” العرضية ليس لمؤسسي هذه الجريدة فقط وإنما لكل العاملين فيها أيضا من صحافيين وإداريين وتقنيين..
صديقي الحسين، وهو “ينبش” ذاكرته، قال في هذا المقال إنه رأى داخل مقر جريدة “المساء” زوارا كثيرين من وزن خاص ومن فئة خاصة..
وذكر الحسين يزي من هؤلاء الزوار كلا من الصحافي الإسباني إنياسيو سمبربرو والصحافي علي المرابط والصحافي خالد الجامعي والفنان أحمد السنوسي بزيز وأرملة كريم المجاطي..
أكثر من هذا، صديقي الحسين قال أيضا في مقاله إن أرملة المجاطي كادت أن تصبح “سكرتيرة تحرير” لأكبر جريدة في المغرب..
وأنا أستبعد أن يكون صديقي الحسين قال مثل هذا الكلام في سياق جدي..
والراجح عندي أنه قال ما قال في سياق يراد منه بعض “السخرية” وليس “الإساءة”…
لكن، ومهما كانت الدواعي والمبررات، فما كتبه زميلي الحسين ترك بعض اللبس وبعض الغموض وبدت الجريدة كما لو أنها بلا أبواب وبلا حراس أختام وبلا مدير نشر وبلا رئيس تحرير وبلا صحافيين..
أي أنه بإمكان أي شخص أن يزور “المساء” ليصبح في اليوم الموالي وبسهولة “سكرتير تحرير” لجريدة لم تشبه ربما أي جريدة في تاريخ الصحافة بالبلد..
أكثر من هذا، لقد بدت الجريدة مع ما كتبه صديقي الحسين كما لو أنها ” قاعدة خلفية” لمليشيات تريد ربما شرا بالوطن أو أنها جزء من مؤامرة عابرة للحدود ضد الوطن نفسه..
والواقع أن كل الذين كانوا يزورون جريدة
المساء” أو كانوا يترددون عليها فإنهم كانوا يفعلون ذلك بدوافع مهنية صرفة..
وهذه مناسبة لأقول في هذا المنحى إن الصحافي الإسباني إنياسيو سمبريرو عندما زار “المساء”، وربما مرة واحدة لا غير إذا لم تخني الذاكرة، فهو لم يكن وقتها يكتب بهذه “العدوانية” عن المغرب والشأن المغربي..
والحقيقة أن سامبريرو كان وقتها صحافيا شبه “مدلل” من طرف رجال الدولة الكبار في بلدنا..
كما كان سمبريرو، وقتها، شبه مقيم في المغرب يدخله متى شاء ويغادره متى شاء..
كما كان سامبريرو الصحافي الإسباني الوحيد الذي حظي بسبق صحفي نادر وغير مسبوق وهو شرف إجراء حوار مع ملك المغرب محمد السادس..
وأقف عند هذا الحد ولا أزيد في هذا الحديث عن سامبريرو..
كما أن باقي الزوار كالصحافي علي المرابط أو أرملة المجاطي وغيرهما كثيرون فقد كانوا هم أيضا يترددون على الجريدة لكن في سياق مهني خالص لا أقل ولا أكثر..
وأتذكر هنا أن المرابط أو أرملة المجاطي أجرت معهما الجريدة حوارات مطولة في الركن المعروف ب”كرسي الاعتراف”..
بمعنى أن حضور الضيوف بمقر الجريدة كان له ما يبرره لأننا كنا في جريدة تشتغل بسقف الوطن لا خارجه..
وكان هؤلاء الضيوف يأتون إلى الجريدة من أجل لقاء الصحافيين في المقام الأول وليس بالضرورة من أجل لقاء مسؤولي الجريدة..
أما الفنان أحمد السنوسي بزيز فلست في حاجة هنا إلى تفسير حضوره بالجريدة لأن بزيز كان ولا يزال مدافعا شرسا عن حرية الصحافة والصحافيين..
وقد أقول أيضا إن بزيز يكاد يكون “مساهما معنويا” في جميع الصحف المغربية بقوة أفكاره وبعمق مقترحاته..
فيما خالد الجامعي كان “تقريبا” واحدا من فريق العمل لأن الراحل كان يكتب عمودا بالجريدة وربما مقابل تعويض في آخر الشهر..
لكن، وهذا استدراك لا بد منه، فعندما نكتب عن “المساء” علينا أن نستحضر بالضرورة “الخيط الناظم” فيما نكتب لأن هذه اليومية لم تكن جريدة فقط..
“المساء” كانت ربما، في فترة من الفترات، “ضمير شعب” بكامله، وربما كانت أيضا “رؤية” جوهرها فكرة نوعية تحسب لصاحب الفكرة ابتداء وانتهاء..
وصاحب فكرة “المساء”، ابتداء وانتهاء، ليس سوى ناشر “المساء” وقتها، أما الباقي فقد التحق ب”القارب” بعد أن شق طريقه وحدد بوصلة الوجهة..
وهذا لا يعني أن فريق العمل، الذي ضم كبار الصحافيين والصحافيات والقامات الصحفية الوازنة، لم يكن لهم أي دور أو لم تكن لهم مجهودات وإسهامات نوعية في الإشعاع الكبير الذي عرفته الجريدة فيما بعد..
لن أقول بهذا أبدًا..
وكان بإمكان هذه الجريدة أيضا أن تلعب أدوارًا أخرى ليس فقط على مستوى دعم الانتقال الديمقراطي للبلد..
بل كان بإمكان هذه الجريدة أن تلعب أدوارًا حتى على مستوى مواكبة الإصلاحات الكبرى التي أطلقها العهد الجديد مع مجيء ملك جديد..
أقول هذا ولو أني لا أعرف شخصيا ماذا جرى حتى تفرقت السبل بقادة “القارب” الذين يستحقون منا كل التقدير والاحترام والإكبار..
وبقدر ما أحيي زميلي الحسين على هذا “النبش” من وحي الذاكرة فإني أؤكد أيضا أن جزءا من تاريخ جميل لجريدة “المساء” لازال لم يكتب بعد..
وأنا أنهي هذه التدوينة بقي فقط أن أقول:
لا خلاف في أن “المساء” كانت حلما جميلا..
لكن كل الأشياء الجميلة تنتهي بسرعة..
وفعلا، أين هي “المساء” اليوم والتي كانت ذات سياق جزءا من حياتنا نحن الصحافيين ومن حياة المغاربة أجمعين؟
كل شيء “راح” مع الزمن في وقت كان يمكن إنقاذ جريدة هي جزء من تاريخ الوطن وبسقف الوطن ودفاعا عن الوطن.