الخبر من زاوية أخرى

أسوان.. الرمال الصفراء.. وقطار ليس كباقي القطارات

Avatarأحمد العناز


في المرة السابقة التي زرت فيها مدينة أسوان لم أنتبه إلى تفصيلة: شركة السياحة التي رتبت لي الرحلة، جعلت إنتقالي إليها بواسطة الطائرة. وهكذا كان ينتابني الأسف أحياناً لما أتذكر ذلك، لكوني لم أنتقل إلى تلك المدينة العجيبة بواسطة القطار الشهير.
 
قبل حفر "قناة السويس"، كانت السفن تنقل البضائع من أوروبا إلى ميناء الإسكندرية، ثم يتم نقلها براً على الجمال إلى القاهرة، ومنها إلى "ميناء السويس" لتسير بحراً في البحر الأحمر ثم المحيط الهندي إلى الهند، وكذلك كان الأمر بالنسبة للبضائع التي تأتي من الهند حيث تقوم برحلة معاكسة.
 
ألحت الحكومة الإنجليزية التي كانت قد استعمرت الهند، ولم تكن قد استعمرت مصر بعد، على الباب العالي العثماني الذي كانت مصر تابعة له، للموافقة على مد خط السكة الحديدية من الإسكندرية إلى القاهرة فالسويس، لتسهيل وتسريع نقل البريد والمسافرين بين أوروبا وخاصة إنجلترا، وبين الهند، كبرى مستعمراتها في المشرق.
 
وافقت الأستانة (إسطنبول) على ذلك بعد مفاوضات شاقة وعسيرة. وهكذا، وَقَّعَ الخديوي عباس الأول، حاكم مصر يومها، سنة 1851 مع الصناعي البريطاني روبرت ستيفنسن، وهو ابن جورج ستيفنسن مخترع القطار، عقداً لإنشاء خط حديدي يربط بين العاصمة المصرية والإسكندرية بطول 209 كيلومتر. وبناءاً عليه، شهدت سنة 1854 تسيير أول قاطرة على أول خط حديدي في مصر بين القاهرة ومدينة كفر الزيات في منطقة الدلتا، واكتمل الخط الحديدي الأول بين القاهرة والإسكندرية سنة  1856. وبذلك، أصبحت مصر ثاني دولة في العالم أدخلت السكك الحديدية إلى أرضها بعد إنجلترا.
 
وبعد سنة، تم إفتتاح الخط الثاني بين القاهرة والسويس، ثم بدأ إنشاء خط يربط القاهرة بمدينة بورسعيد بعد سنتين أخريين، ولم يشرع في إنشاء الخط الحديدي الذي يشق صعيد مصر إلا في سنة 1887. ولكن هذا الأخير لم يتم إنشاؤه لأسباب تجارية فقط، ولكن أيضاً لدواع سياحية وخصوصاً السياحة الإستشفائية.
 
فبسبب موجة البرد القارس في أوروبا التي كانت تنتشر فيها العديد من الأمراض المرتبطة بها، وخصوصاً الأمراض الصدرية وأمراض المفاصل، كان الأطباء ينصحون المرضى القادرين بالذهاب لأسوان للعلاج، فكانوا يضطرون لقطع كل تلك المسافة للوصول إلى تلك المدينة القصية لقضاء شهور البرد فيها للعلاج من أمراض الصدر بسبب مناخها الجاف، وتوفرها – وهذا هو الأهم – على أنواع الرمال الصفراء الناعمة النظيفة الصالحة للإستشفاء عن طريق الغمر فى الرمال التي لها مفعول السحر في الإستشفاء من إلتهابات العظام والروماتيزم، حيث يتم دفن المريض في الرمال عدا الرأس، إما قبل الشروق أو الضحى وقبل الغروب تفاديا لحرارة الشمس في ذلك الوقت، لمدة تتراوح ما بين خمس إلى عشر دقائق. ثم يتم لف المريض، عقب الخروج من الحمام الرملي، ببطانية لحمايته من أي تيارات باردة، مع إعطائه سوائل دافئة مثل "القرفة" أو شربة دافئة حتى يتم تعويضه عن السوائل التي فقدها الجسم، مع منعه من شرب المياه لمدة لا تقل عن الساعتين.
 
وتعتبر مقبرة السلطان محمد شاه الحسيني الذي يطلق عليه اختصاراً إسم "الأغا خان الكبير" في أسوان، أبرز مثال على تلك السياحة العلاجية، حيث كانت تلك الرمال سبباً في شفائه.
 
فقد عجز أعظم أطباء العالم عن علاج الزعيم الروحي ل"الطائفة "الشيعية الإسماعيلية النزارية"، وإمامها الثامن والأربعون من مرض الروماتيزم الذي كان يعانى منه، إلى أن يئس من الشفاء واستسلم للمرض، فأشار عليه أصدقاؤه بالسفر إلى أسوان للإستشفاء برمالها النظيفة. جاء إلى مصر، والتقى مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي وافق على منحه قطعة من أرض الجبل الغربي، وتلقى العلاج على يد شيخ نوبي، فتعافى بعد عدة جلسات من الدفن بالرمال وعاد إلى بلاده سالماً واقفاً على قدميه.
 
 
كانت هذه النتيجة الإيجابية سبباً في عشقه لأسوان التي أوصى بدفنه فيها في نفس المنطقة التي عالجته رمالها من الآلام، ليصبح ضريحه الفخم الذي يضم كذلك قبر زوجته البيجوم أم حبيبة، والذي بني على الطراز الفاطمي فوق ربوة جميلة عالية بالبر الغربي للنيل في مواجهة حديقة "النباتية"، من أشهر معالم هذه المدينة السياحية.
 
 
عودة إلى رحلتي.. وأمور أخرى..
 
 
انطلق بنا "قطار النوم" الشهير الذي يضم 15 عربة في الساعة الثامنة والنصف مساءا في رحلة تصل مسافتها إلى ألف كيلومتر، وتستغرق 14 ساعة.. إذا جرت الأمور بشكلها المعتاد. 
 
يشتكي المصريون، وكذلك العديد من السياح، من أن هذا القطار الذي كان في ما مضى قبلة للمسافرين من السائحين ورجال الأعمال والمرضى وصفوة المجتمع لما كان يوفره من سبل الراحة لركابه داخل مقصورات النوم، قد تحول خلال السنوات الماضية، بفعل الفوضى ومعضلة الإهمال (الخدمة المتدنية المقدمة للمسافر، والمظهر العام  للنظافة داخله وداخل دورات المياه…)، إلى رحلة عذاب لا يتحملها أحد، وهذا دون أدنى مبالغة في الوصف. وحتى لو رغب أحد المسافرين في الهروب من ملل الرحلة إلى ما يسمى ب"النادي" الموجود داخل القطار، فإنه لن يتحقق له ذلك بعد أن أصبحت ال"كافيتيريا" مكاناً مهملاً يفتقر لجميع وسائل الترفيه والتسلية.
 
يضاف إلى كل هذا العذاب، إصرار القائمين على تشغيل إدارة السكة الحديدية على تشغيل قطار يسير ربع ساعة قبل موعد "قطار النوم"، ويتوقف في جميع المراكز والأقاليم مما يجعله يسير ببطء شديد… وكأنه سلحفاة.
 
سعر "تذكرة النوم" للأجانب محدد في مبلغ 100 دولار مقابل مقصورة (كابينة) مشتركة، و120 دولاراً للغرفة الفردية. وهو بهذه الأسعار، يحقق مكاسب عالية لهيئة السكك الحديدية. لكننا نحن المغاربة، وباقي العرب، نستفيد من الأسعار الخاصة بالمصريين، ف"الكابينة" المزدوجة بمبلغ 300 جنيه، والفردية بقيمة 500 جنيه.
 
وتتوفر كل "كبينة" على سریرين وحوض للمیاه المفروض أنها ساخنة وباردة، ولكنني وجدتها باردة فقط وضعيفة الصبيب، بالإضافة إلى أن وحدة التحكم في درجة الحرارة لا تشتغل مما جعلني أقضي الليلة ملتفاً بالغطاء الصوفي بسبب برودة التكييف.
 
كما تتوفر كل عربة على مرحاض لم أغامر بدخوله بسبب الريح القوية التي تخرج منه مباشرة إلى مخرج "الخبث"، مما قد يتسبب في انتفاخ البطن من الوراء.
 
بالنسبة لي لم أهتم طبعاً بالحالة العامة للقطار، فقد كنت سعيداً بقضاء ليلة "فندقية" على متنه، رغم أنني لم أتناول وجبتي العشاء والإفطار المقدمة لنا لكونها تشبه أكل المستشفيات. كان الأهم بالنسبة لي هو السفر على متنه، وخصوصا أنه يسهل الوصول إلى أماكن المزارات السياحية القريبة من محطاته.
 
 
ولكن اكتشفت أن هذا القطار لم يرض فضولي، فرغبتي هي أن أرى مدن الصعيد الشهيرة كأسيوط وسوهاج وقنا والمنيا وطهطا ومنفلوط وغيرها. ويتطلب الأمر لتحقيقها الركوب في قطار النهار، وليس المرور عبرها نائماً في الليل، وهذا يحفزني على العودة في قادم الأيام للقيام بهذه الرحلة.
 
طبعاً، لو سمحت لي الظروف وتيسرت.
 
 
* كاتب ومدون لأسفاري