الخبر من زاوية أخرى

ميلاد الإيديولوجيات الشمولية

Avatarجاك أطالي


ترجمة لحسن حداد
 
أمام التحولات الكبرى التي يعرفها العالم، كثير هم الذين يختبؤون وراء عقائد، خالية من أي دليل علمي.
 
"إن الإيمان بأنه لا توجد في الكون إلا الكواكب التي نعرفها لحد الآن، هي مقولة مجردة من العقلانية مثلها مثل القول بأنه لا توجد في السماء إلا الطيور التي تمر أمام نافذتنا"، هذا ما كتبه الفيلسوف المسيحي جيوردانو برونو في أواخر القرن السادس عشر. برونو لم يقبل أبدا تأييد عقائد عصره، ولم يؤمن إلا بما يمليه عليه العقل. وقد أدى الثمن غاليا، حيث تم إحراقه في فبراير 1600 في ساحة من ساحات روما بأمر من البابا كليومون الثامن. 
 
هذه المأساة جزء من التاريخ الطويل لمن يصرخون، منذ فجر التاريخ، بكل ما أوتوا من قوة، بأسبقية العقل على كل الإملاءات العقدية الأخرى. بالنسبة لهؤلاء فإن كل يقين، مهما كان نوعه، يجب أن ينحني أمام امتحان التجربة، وكل إيديولوجية يجب أن تمر عبر محك العقل. 
 
اليوم كذلك، في وقتنا الحاضر، على مقولة أسبقية العقل أن تجد صدى قويا لها كشيء بديهي لا محيد عنه. ومع ذلك هناك كثير من الناس، وعددهم يكبر يوما بعد يوم، يقولون بأن نظرية التطور خاطئة، وبأن النساء لسن متساويات مع الرجال، وأن هناك أجناس بشرية متعددة، مختلفة وغير متساوية، وبأن هذا الشعب متفوق على الآخر، وبأن الإنسان متفوق على الطبيعة وسيدها، وبأن هذا الأخير لا يلعب دورا في الاحتباس الحراري. 
 
النصوص المقدسة وإعادة قراءة التاريخ
في عالم مضطرب، تشوبه كثير من الضبابية، ويعرف عددا لا يحصى من التحولات الكبرى، كثير هم الذين يلجؤون إلى "يقينيات" معينة ويحتمون بها ويقبعون داخلها. يرفضون الشك ويقولون بأنه، حتى في عالم المعرفة، "ما مضى أحسن مما حضر." 
 
وهذا أمر مفهوم: من الصعب العيش في عالم يعرف تحولات واضطرابات عديدة، وحين نرى أرضية هذه "اليقينيات" تهتز من تحت أرجلنا فإننا نتشبت بأي شيء. مثلنا مثل متسلق للجبال في خطر: يتشبت يائسا بأي نتوء صخري يقع أمامه. 
 
هكذا تولد الإيديولوجيات الشمولية. وهذا ما سيقع الآن كذلك. إن هؤلاء المتعصبين هم من طينة واحدة رغم ظنهم أنهم مختلفون: هناك نقط مشتركة عديدة بين من لا يشكون في قراءتهم للتاريخ وبين من يتشبتون بقراءة النصوص المقدسة، والطرفان بهذا التشابه لا يفطنان. 
 
ومع ذلك فمن الممكن التوفيق بين الأخلاق والعقل، والعقيدة والعلم. بالنسبة للملحدين، لا يجب أن يضع هذا الأمر قضية إيمانهم بالإنسان محل تساؤل؛ وبالنسبة للمؤنين، فإن إيمانهم بما يسمونه "الإلاه" يبقى مصونا ومضمونا. 
 
واجب الشك، والعقل، والتسامح والتواضع
أليس هذا ما كان يريد قوله الفيلسوف المسلم العظيم، ابن رشد، من قرطبة، حين كتب في أواسط القرن الثاني عشر هذه الجملة القوية: "لا يمكن للحقيقة أن تكون مناقضة للحقيقة؛ بالعكس فهي تتوافق معها وتشهد لصالحها." وهو ما يعني، أنه مهما كانت الاكتشافات العلمية، فإنه على الإيمان الإقرار بها دون أن ينقص هذا من قدرته على تمجيد عجائب الكون، التي يكشف عنها العقل. 
 
وهذا هو صلب ما كان يرمي إليه جوردانو برونو، أربعة قرون بعد ابن رشد، وبعد ابن ميمون وطوماس الأكويني حين قال: "هكذا ترتفع روعة الإلاه، وتصبح عظمة مملكته بادية للعيان: 
لا يتم الاحتفال بالإلاه تحت شمس واحدة بل تحت شموس لا تحصى، وليس في أرض واحدة، أو عالم واحد، بل في مئات الآلاف، في عدد لا متناهي من العوالم." 
 
كان عند برونو حدس مسبق حول تعدد المجرات، وهو الاكتشاف الذي سيتوصل إليه العلم قرنين بعد ذلك. 
 
حين نتذكر هذه الأفكار وكل من هلك من أجلها، سوف نتمكن من الدفاع عن الحق في الشك، والعقل والتسامح، والتواضع، والتي بدونها لم تكن ممكنة لا الإنسانية ولا الحضارة ولا الحرية. 
 
ليس هناك شيء أكثر استعجالا في الوقت من هذا الأمر. 
 
*عن جريدة ليكسبريس الفرنسبة، تاريخ 19 شتنبر 2018