الخبر من زاوية أخرى

نهاية العالم

حسن طارقحسن طارق


تنشغل مراكز التفكير و معاهد البحث و كبريات المجلات والصحف المتخصصة في محاولات عسيرة لتحديد الملامح الغامضة للعالم "الجديد" الذي يتردد في الإعلان عن نفسه، على مستويات العلاقات الدولية و النظام الدولي و الثقافة السياسية و منظومات القيم والأفكار السائدة. 

ينضاف الى ذلك جهد واضح لمفكرين و منظرين و مثقفين ،في رصد مظاهر التحول الذي يطال السياسة الدولية و مؤشراته و أبعاده و حدوده .

في توصيف ذلك تكاد تتشكل منذ سنوات قليلة نوعية خاصة من الأدبيات التي تعتني بسؤال العالم الجديد و مضامينه الاستراتيجية و الايديولوجية والاقتصادية والسياسية ، وهي أدبيات كثيرا ما تبرز و تتكاثر في اللحظات المفصلية الكبرى للتاريخ السياسي للعالم ،ولعل آخر محطاتها ما عرفته البشرية في نهاية التسعينات و بداية الآلفية من فورة للتحاليل و القراءات التي حاولت تفكيك المعنى العميق الذي قاد العالم الى ما عبرت عنه بكل مشهدية مليئة بالشحنة الدرامتيكية لحظة إنهيار جدار برلين. 

المقارنة بين ما نعيشه اليوم من قلق و أسئلة ،وبين ما عرفه العالم إبان تلك اللحظة ،تبدو جد مشروعة ،فاذا كان انهيار الكتلة الاشتراكية وما رافقه من انهيار للتوازنات التي تأسست عليها مرحلة الحرب الباردة ،قد سمح بتبلور العديد من المحاولات الساعية لتقديم إطارات نظرية و مرجعيات فكرية تسمح بقراءة التطورات وأشكال الصراع المتحولة (كان هنتغتون في معرض التأسيس لاطروحة صراع الحضارات قد تحدث عن أربعة نماذج نظرية : نموذج العالم الوحيد الذي استعاد انسجامه الايديولوجي ،نموذج العالمين المتصارعين وفقا لمعيار الاستقرار أو التوتر،نموذج تعدد الدول و تعقد الخريطة الدولية ،و باراديكم الفوضى العارمة و العالم الخارج عن المراقبة) ،فإن لحظة اليوم تستدعي بالتأكيد قدرا من الاجتهادات في النظر و التحليل و الفهم. 

في الشهر الماضي، عنونت إحدى الاسبوعيات الفرنسية غلافها بجملة مثير : نهاية العالم ، في العنوان الفرعي و بخط أقل بروزا نقرأ تتمة الجملة ،لكي نفهم أن العالم المقصود بالنهاية هو العالم الذي نعرف ،و فوق العنوان الرئيس وضعت هذه الكلمات: ترامب، الحمائية ،الهجرة ،التكنولوجيات…

في كل التحاليل التي تعنى بفك أسرار هذا العالم الجديد ،يتواتر تعداد كثير من المؤشرات ، تبدأ بصعود الشعبويات الوطنية و حيوية الهويات الفرعية،و تطال أزمات الليبرالية و انحباس مسارات الديمقراطية و تأجج حروب التجارة و تزايد الارهاب ، ولا تكاد تنتهي بمخاطر البيئة و المناخ .

في كتابه الذي سيصدر الشهر القادم و الموسوم ب" الهوية : الطلب على الكرامة و سياسات الاستياء " ،يعود فرانسيس فوكوياما  ،الى المفهوم الهيجيلي  للاعتراف الذي بنى عليه غالبية أطروحاته ،ليلاحظ أن الاعتراف الذي يأمله كل مواطن حر داخل ديمقراطية ليبرالية ،لم يعد كافيا للجواب على الطلب الشعبي الواسع بالاعتراف بالهويات الجماعية وتعبيراتها السياسية ،وهنا ينتبه صاحب "نهاية التاريخ "الى الحالة الامريكية حيث ان الطلب على سياسات الاعتراف الهوياتي اذا كان قد انطلق يسارا (الأقليات الافرو أمريكية ،المختلفون..) فقد تحول الى اليمين مع مطالب الأمريكيين البيض أنفسهم باعتراف أكبر داخل المجال العام. 

لذلك يدافع فوكوياما على إعادة بناء تصور إدماجي للهوية الوطنية ،كقاعدة أساسية للديمقراطية ، دون ذلك فهذا المفكر لايبدو متفائلا بالنسبة لمستقبل ما يسميه عالما حرا و مفتوحا ،صنعته الديمقراطيات التقدمية منذ أوساط القرن الماضي ،و يبدو اليوم قيد الهدم من طرف قوميات شعبوية تتنافس حول غلق الحدود و صناعة الخوف من الانفتاح. 

في عدد هذا الصيف من المجلة الامريكية المرموقة "Foreign Affairs " نعثر على نفس الهاجس الفكري : كيف نفهم عالما جديدا قيد التشكل .

في الأجوبة التي تقدمها نخبة من علماء السياسة والاقتصاد والقانون و كبار المؤرخين ، نجد امتدادات للمقاربات التي ظلت حاضرة في تأطير النظر الى العلاقات الدولية ،من قبيل المدرستين الليبرالية و الواقعية ،أو حتى ما تبقى من قراءات ماركسيةتغلب العوامل الاقتصادية  ،لكننا جنبا الى جنب هذه الرؤى المؤلوفة نطالع تصورات مبنية على نفس كارثي يقدم لوحة سوداء لتفاعلات النظام الدولي على ضوء المصائب الحتمية للتغيرات المناخية و للحرب الرأسمالية على البيئة ،فضلا عن مقاربة تتقمص مفهوم القبيلة لتطور تحليلا ينظر للعالم مت زاوية اصطفافات قبلية جديدة تلعب فيها الهويات أدوارا أكبر بكثير من القوميات أو الايديولوجيات   .

انطلاقا من رصده للحالة السياسية الفرنسية ،لايبدو المفكر المعروف "ألان تورين"في كتابه الأخير " القرن السياسي الجديد" بعيدا عن الإنشغالات ذات الصلة بعالمنا الجديد ،ذلك أن كثير من خلاصات تأملاته تنسحب على عمومية التحولات التي طالت الثقافة السياسية و المرجعيات الايديولوجية للانظمة السياسية الحديثة ،بالقدر ذاته الذي  تنطلف من خصوصية التجربة الفرنسية .

دلالات العصرالسياسي الجديد ،الذي ولجته فرنسا-ومعها العالم بكل تأكيد- ترتبط بالانفجار المدوي لثنائية اليسار و اليمين ،والتي باتت عاجزة عن تأطير الجواب على الأسئلة الجديدة لمجتمعات اليوم ،حيث تم تعويض النقاش حول المسألة الاجتماعية ،كمحور مهيكل للسياسة في العصر السابق ،بالنقاش حول المسألة الوطنية ،و حيث قضايا الدين والعلمانية والهوية والارهاب و البيئة ،باتت تشكل جدول أعمال العالم الجديد.