الخبر من زاوية أخرى

“أحداث جرادة”.. ليس دفاعا عن “عنف السلطة”

مصطفى الفنمصطفى الفن
 صحيح أن جرادة والبلدات المجاورة لها هي اليوم مناطق منكوبة بعد أن توقف فيها قطار التنمية ونسيتها الدولة من برامجها منذ ما يزيد عن 20 سنة مضت.
 
أي منذ تاريخ إغلاق معامل الفحم بقرار من الدولة وتعويض العاملين فيها. وهو القرار الذي "باركته" جميع النقابات ضمنها نقابة الأموي، التي كان يمثلها وقتها عبد الكريم بنعتيق الوزير الحالي لجاليتنا المغربية في الخارج.
 
وصحيح أيضا أن هناك شبابا بهذه المناطق المهمشة يستحقون أوسمة وجوائز وجبر الضرر لأنهم أفنوا زهرة شبابهم في العطالة والحرمان والبؤس والانتظار دون أن يتطرفوا أو "يتدعششوا" أو يشعروا باليأس أو ينخرطروا في تنظيمات عدمية..
 
أكثر من هذا، فعلى الرغم من كل هذه الهشاشة القاتلة للزرع والضرع بجرادة وضواحيها فلا زال الناس بهذه المناطق المنسية "يثقون" في رموز الدولة وفي مؤسساتها ولازالوا يرفعون العلم الوطني ولا زالوا يحلمون بغد أفضل، بل إنهم يرونه قريبا.
 
وكلنا شاهد كيف خرجت ساكنة هذه المدينة وضواحيها في احتجاجات سلمية دامت أكثر من ثلاثة أشهر دون تسجيل ولو حالة عنف واحدة ضد ممتلكات الدولة أو ضد ممتلكات المواطنين. 
 
بل إننا أصبحنا نتحدث عن "نموذج جرادة" في التظاهر والاحتجاج السلمي بمضمون اجتماعي صرف لعلنا ننسى "نموذج الريف" الذي انزاح نحو العنف المتبادل وهيمنة البعد السياسي على حراكه.
 
لكن ما الذي وقع حتى نفد صبر الجميع بجرادة وانهار كل شيء يوم الأربعاء الماضي وعادت عقارب الساعة إلى الصفر وانفجرت الأوضاع وتمايز الصفان في مواجهات عنيفة انتهت بتلك الحصيلة الدامية في صفوف القوات العمومية والمحتجين؟  
 
بالتأكيد العنف مدان من أي جهة صدر سواء من السلطة أو المحتجين لكنه مدان أكثر عندما يصدر عن دعاة "الاحتجاج السلمي".
 
 
وحسب معلوماتي المتواضعة، فقد تعاملت الدولة والحكومة بالجدية اللازمة مع مطالب السكان منذ اندلاع الاحتجاجات قبل ثلاثة أشهر.
 
 بل ينبغي الاعتراف أن الحكومة استجابت لأكثر من 70 في المائة من هذه المطالب منها مطالب عاجلة تم تنزيلها فورا على الأرض.
 
وطبعا هناك مطالب أخرى مبرمجة على المديين المتوسط والبعيد. وهي مطالب تحتاج إلى عنصر الزمن لأنها جزء من "بديل اقتصادي" لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها.
أقول هذا ولو أني لم أفهم كيف أن مدينة بكاملها تخرج إلى الشارع من أجل مطالبة الدولة بإعفائها من أداء فواتير الماء والكهرباء.
 
نعم قد يطالب الناس بحكم الهشاشة والفقر بتسهيلات في الأداء أو تخفيض التكلفة أو الإعفاء الجزئي في أداء بعض الفواتير لكن إعفاء منطقة بكاملها من أداء فواتير الماء والكهرباء فهذا ربما غير مفهوم.
 
لماذا ؟
لأن مثل هذا الأمر قد يبعث رسالة سلبية إلى باقي المدن المغربية المهمشة لكي تخرج إلى الشوارع من أجل هذا المطلب المغري.  
 
وأنا هنا لا أدافع عن وزارة الداخلية لأن هذه الوزارة هي أم الوزارات وتعرف كيف تدافع عن نفسها.
 أنا هنا أدافع عن منطق في التفكير وعن اقتناع ذاتي إلى حد "الاعتقاد" مفاده أن السلطة وحدها التي تملك حق استعمال "العنف المشروع" أو حتى ربما "غير المشروع"، وعلى المتضرر من عنفها أن يلجأ إلى القضاء لأنه لا وجود لخيار آخر.
وأنا لن أتقبل أبدا وتحت أي مبرر أن يرد "المحتجون"، مهما كانت قضاياهم ومطالبهم عادلة، على "عنف السلطة" بعنف مضاد حتى مع وجود دهس متعمد أو غير متعمد.
فعندما يقع مثل هذا ويرد أي محتج، تحت أي دافع من الدوافع، على عنف السلطة بعنف مضاد فهذا معناه أن البلد انتقل إلى الفوضى المفتوحة على المجهول.
والمجهول هو سقوط هيبة الدولة وهو سقوط رموزها وهو تفكك أجهزتها الساهرة ليل نهار على استتباب أمننا الجماعي وهو انهيار السلم الاجتماعي المغذي ل"قوانين شرع اليد". 
وهكذا تصبح الدولة، والحالة هذه، ملزمة ربما بحل أجهزتها الأمنية وتسريح العاملين فيها لأن حياتهم أصبحت في خطر بعد أن أصبح في حكم العادي أن نرشقهم بالحجارة أو نحاصرهم في الأزقة الضيقة لنضرم النار في سياراتهم!..
لا خلاف أن حراك جرادة له مطالب اجتماعية صرفة  بلا مضمون سياسي. 
ولا خلاف أن هذه المطالب مشروعة وعلى الدولة أن تتفاعل معها إيجابا.
بل لا خلاف أيضا في أن يتجمهر الناس بشكل سلمي في ساحة عمومية حتى بدون ترخيص للفت انتباه السلطات إلى معاناتهم ومشاكلهم والتسريع بحلها.
لكن تنظيم المسيرات الاحتجاجية انطلاقا من جرادة في اتجاه البلدات المجاورة لها وتجييش الناس للخروج فيها حتى دون إخطار السلطات، بل وضع هذه السلطات أمام الأمر الواقع وليقع ما يقع.. 
فهذا في نظري لم يكن هناك أي داع إليه خاصة أن الحكومة أبانت عن "حسن نية" في الاستجابة لبعض المطالب الهامة، بل إنها شرعت في تنفيذها بغير تسويف أو تماطل.
 فما الداعي إذن إلى توتير الأجواء والعودة إلى نقطة البداية ما دامت عملية الشروع في تنفيذ المطالب قطعت أشواطا مهمة؟ 
شخصيا لم أفهم تلك "العدوانية" التي تصرف بها بعض "المحتجين" مع رجال أمن ودرك وقوات مساعدة ومع ممتلكات دولة حتى لو كانت هذه الدولة سباقة إلى استخدام العنف في حقهم.
 ويعترف العبد لله أنه يجد صعوبة في التضامن مع "محتجين" أضرموا النار في سيارات أمنية وحاصروا سيارات أمنية أخرى ورشقوا القوات العمومية بالحجارة.
بالتأكيد، أفعال مثل هذه ليست شكلا من أشكال الاحتجاج السلمي بل هي عمل إجرامي يستحق الإدانة والاستنكار بكل لغات العالم.
نعم أنا مع الاحتجاج السلمي لانتزاع الحقوق المشروعة حتى لو وقع هذا الاحتجاج بدون ترخيص. وقد لا أتردد في إدانة أي عنف صدر عن السلطة في حق المحتجين السلميين.
 لكن العنف المضاد ضد رجال الأمن ينبغي أن يكون خطا أحمر مهما كان حجم الظلم لأن هؤلاء هم أيضا مواطنون ويشتغلون الساعات الطوال في ظروف صعبة ولهم أسر وأطفال صغار ينتظرون عودتهم سالمين من العمل. 
بقي فقط أن أقول. أنا غير متفق مع وزارة الداخلية عندما تقول إن العدل والإحسان، ومعها النهج الديمقراطي، هي التي تقف وراء ما وقع بجرادة من أحداث عنيفة.
صحيح أن العدل والإحسان جماعة دعوية تمارس السياسة ومن حقها أن تكون لها آراء ومواقف في الأحداث التي تقع من حولها.
وصحيح أيضا أن العدل والإحسان تعارض الحكم لا الحكومة ولها مواقف جذرية من النظام في المغرب، وقد تعلن تضامنها مع هذا الطرف دون ذاك استنادا إلى تقديراتها السياسية..
 
 لكن ينبغي الاعتراف لهذه الجماعة أنها لم تنجر إلى العنف حتى في أحلك الظروف العصيبة وفي عز المواجهات مع السلطة وأجهزتها.