قضية توفيق بوعشرين.. رؤية من زاوية أخرى
رحم الله المفكر والسياسي والفيلسوف عبد الله ابراهيم، الذي لم يكتب لإنتاجه العلمي والفلسفي والفكري أن يصل إلى فئات واسعة من المغاربة.
رحم الله هذا الرجل الذي اقترن اسمه في تاريخ المغرب بالرصانة والرزانة وبحكومة للإصلاح أسقطها حزب "الفساد" في أقل من سنة ونصف.
ولأن الرجل كان ذا رصانة ورزانة، فقد اختلى بذاته واختار أن يمارس السياسة من زاوية المتأمل في مفارقاتها عوض أن يصبح جزءا من "عبثها" المترامي الأطراف.
وربما لهذا السبب، كان عبد الله ابراهيم أول من شبه، رحمه الله، المغرب بذلك "التلميذ" الذي ينجح كل سنة دراسية إلى أن يصل إلى البكالوريا.
وعندما يجتاز "الزغبي" امتحان البكالوريا بنجاح، فإن من بيدهم "خزائن الأرض" يدخلون على الخط ليرجعوا "التلميذ الناجح" إلى السنة أولى ابتدائي ليبدأ الدراسة من جديد مع تلاميذ "التحضيري".
وكان الراحل عبد الله ابراهيم يلمح في هذا المنحى إلى مسؤولية الدولة في هذه "الكيفية القاتلة" التي تتعاقب بها النخب داخل بلد اسمه المغرب.
والمقصود هنا أن نخبنا لا تتعاقب ليكمل بعضها بعضا في اتجاه منطق التراكم المفيد للوطن، بل إنها تتعاقب ليلعن بعضها وبعضا ولكي نبدأ من الصفر كتلك "التي نقضت غزلها مِن بَعدِ قوةٍ أَنكَاثا".
وفعلا، لقد شعرت بالرعب وأنا أرى ذلك الكومندو الأمني الذي جاء إلى مقر يومية "أخبار اليوم" لكي "يعتقل"، بطريقة هوليودية، واحدا من كبار الصحافيين المغاربة، الذي قاد بنجاح عدة تجارب صحفية بمنتوج مهني جيد.
صدقوني، لقد اعتقدت في البداية أن الصحافي توفيق بوعشرين قد يكون ضبط متلبسا في قضية خطيرة لها علاقة بالأمن القومي للبلد أو التخابر مع العدو أو الاتجار الدولي في المخدرات.
والواقع أن الأمر يتعلق بمجرد "شكايات" كان ينبغي أن تأخذ المسطرة القانونية العادية عبر توجيه استدعاء إلى الصحافي المعني بها ليجيب عن كل التهم الموجهة إليه عوض تلك الأجواء الرهيبة التي جرت فيها عملية "الاعتقال".
نعم إن الأمر مجرد شكايات ومزاعم باعتداءات جنسية إلى حدود ذلك اليوم، ولا توجد أي حالة تلبس، وما تدعيه الفتيات "المشتكيات" قد يكون وقد لا يكون في انتظار استكمال البحث والتحقيق.
لكن الطريقة التي اعتقل بها توفيق ليس لها ربما أي مسوغ قانوني، بل لم يكن هناك أي داع إليها لأن الخاسر فيها هو صورة البلد الذي بدا كما لو أنه عاد إلى نقطة البداية في منسوب الديمقراطية.
وأنا لا أقول مثل هذا الكلام إلا دفاعا عن البلد الذي أحب، ولست مكبر صوت لـ"جهة ما".
فأنا مجرد صحافي شعر بالخوف وانتابه إحساس أنه في حالة سراح مؤقت في قطاع جد هش، وهو يرى أن "اعتقال" صحافي هو مجرد عمل سهل وإجراء بسيط جدا ولا يحتاج حتى إلى إخبار نقيب الصحافيين.
وهذه مناسبة لأقول. أنا مع تعديلات في مدونة الصحافة والنشر ليكون الاستماع إلى الصحافيين بحضور نقيبهم أو ممثلي هيئاتهم المهنية كما هو الشأن بالنسبة إلى المحامين.
صحيح أن الصحافي ليس فوق القانون، لكن في نفس الوقت لا ينبغي أن يكون تحته.
وهذا بالضبط ما جرى ربما في هذه القضية التي تحولت فيها بعض الفتيات إلى مشتكيات بأثر رجعي رغم أنهن لم يقدمن أي شكاية ضد بوعشرين إلا بعد أن وجدن أنفسهن داخل مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية.
"نعم لم أقدم أي شكاية بالاعتداء الجنسي ضد بوعشرين، لكنهم اتصلوا بي وطلبوا مني أن آتي إلى مقر الفرقة الوطنية، ولم أكن أعرف سبب استدعائي إلا بعد أن وصلت عندهم"، تقول واحدة من هؤلاء المشتكيات إلى موقع "آذار" قبل أن تستدرك "لكن عندما سألوني عما إذا كان بوعشرين تحرش بي أو اعتدى علي جنسيا، فقد رويت لهم الحقيقة كاملة".
ولا أدري ما إذا كان من حق الفرقة الوطنية أن تستدعي فتيات لتسألهن عن "فعل جرمي مفترض" بعد مدة طويلة من وقوعه رغم أن هؤلاء الفتيات، بعضهن متزوجات، لم يتقدمن بأي شكاية بخصوص هذا الفعل؟
أعترف أني لست خبيرا قانونيا لكن بعض أصدقائي المحامين أكدوا لي أن استدعاء الفرقة الوطنية للفتيات إجراء قانوني سليم حتى لو لم يقدمن شكايات.
بل إن هؤلاء المحامين أكدوا لي أيضا أن من حق النيابة العامة أن تحول شاهدا أو أي شخص استمعت إليه إلى مشتك في فعل جرمي مفترض.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نخفي الشمس بالغربال. إذ ليس سرا أن بوعشرين توبع اليوم ليس لأنه اعتدى جنسيا على فتيات.
بوعشرين توبع بسب افتتاحيات مزعجة ومؤثرة في "رأي عام" ما عادت تؤثر فيه تحاليل الصديق العزيز منار اسليمي.
أما "الاعتداءات الجنسية"، ولو أنها أفعال جرمية مدانة وأنا ضدها، فهي آخر الهموم لدى من يهمهم الأمر، وإلا لما تم التسامح المريب مع مدير "دوزيم" سليم الشيخ في قضية الشابة الجميلة سلوى بوشعيب.
أكثر من هذا، لقد ذهبنا بعيدا وكدنا أن نتضامن "رسميا" مع الفنان سعد لمجرد وهو خلف القضبان في جريمة اغتصاب مفترضة، بل تسامحنا مع فنانين مغاربة تظاهروا بأسلوب بلطجي أمام السفارة الفرنسية بالرباط احتجاجا على اعتقال شخص متهم بالاغتصاب.
أعرف توفيق بوعشرين جيدا وهو صديق عزيز تفرقت بنا السبل، وتقاسمت معه في فترة من الفترات الكثير من الهموم والأفراح والأحزان سواء عندما اشتغلنا معا بأسبوعية "الأيام" أو بيومية "المساء".
وأعترف أني مدين لتوفيق في تجربتي المهنية المتواضعة لأن هذا الرجل كان أول من وثق في مؤهلاتي وقدراتي وأنا في أول الطريق أتعلم الحبو.
ولأني أعرف توفيق جيدا ورغم انقطاع حبل الصداقة بيني وبينه في سياق خاص، فلا بأس أن أقول كلمة قصيرة في حقه: إن الرجل صحافي حقيقي وبحس وطني عال وليس معارضا للنظام الملكي كما يحاول البعض أن يقدمه في هذه الصورة.
بل أستطيع أن أضيف أيضا إن توفيق ملكي حقيقي. وما علمت، والله يشهد، أن السيد تعاطف أو دعم أو ناصر موقفا عدميا أو ثوريا من الملك والملكية في المغرب، لكنه ملكي بطريقته.






