الخبر من زاوية أخرى

سؤال الهجرة والاندماج وقضايا التعدد الثقافي

Avatarلحسن حداد


الهجرة تحديات وفرص. السياسة التي يسلكها المغرب بقيادة  الملك محمد السادس هي ترجمة للتحديات إلى فرص للمساهمة في التنمية المتبادلة في إفريقيا والمغرب. الهجرة هي كذلك فرصة لتبادل الخبرات عبر إفريقيا لتحقيق القفزة التنموية المنشودة. المغرب بلد هجرة وشهد عبر التاريخ نزوح مجموعات يهودية ورومانية ووندالية وعربية وأندلسية وإفريقية وأوربية لتتلاقح مع سكانه الأصليين–الأمازيغ–لبناء صرح مجتمع منفتح ومعتز بتعدده وتنوعه.

هناك دول بنيت أساسا على الهجرة. الفعل البشري هو في أصله فعل هجرة. القيم والثقافات الموجودة على المستوى العالمي تم التأسيس لها بفضل من هاجروا إلى آفاق وفضاءات جديدة وتلاقحوا مع أهلها وأعطوا وأخذوا منهم.

سياسات الهجرة التي سلكتها أوربا لحد الآن تميزت ببعض النجاحات ولكنها أضحت أمنية، انتقائية، مبنية على التحصينات وعلى مقولة أوربا القلعة.

تنمية دول الجنوب لكي تصبح قادرة على خلق الثروة والشغل التي تقول بها أوربا ودول الشمال عموما هي فقط محاولات محتشمة لا تجد أثرا لها على أرض الواقع، مع العلم أن قيمة التنمية الدولية الموجهة لدول الجنوب  تصل فقط إلى 14 مليار درهم بينما قيمة ما تجنيه دول الشمال من مبادلاتها وتجارتها واستثمارها في دول الجنوب هو ستة تريليون دولار.

تسهيل تنقل الأشخاص والمثقفين والجامعيين والأطر بين الشمال والجنوب بقي حبرا على ورق رغم التنصيص عليه في الكثير من المنتديات. النتيجة هي هجرة الأدمغة من الجنوب إلى الشمال وتكريس تبعية دول الجنوب للشمال فيما يخص البحث والاختراع ومبادرات التنمية الاقتصادية المعتمدة على المعرفة.

أضف على هذا انجرار اليسار واليمين معا في أوربا وراء خطاب القوميات الجديد ذي البعد الشوفيني مما أعطى لأفكار اليمين المتطرف المعادي للهجرة والمهاجرين شعبية متصاعدة في المجتمعات الأوربية. النتيجة هي التفريط في قيم وثقافة الحقوق، حقوق المهاجر واللاجيء وكذا قيم التعايش كأساس للتجربة الإنسانية في شموليتها.

سؤال الادماج، إدماج المهاجرين، هو سؤال ثقافي بالإضافة إلى كونه سياسي واقتصادي. والمفارقة تكمن في كيفية التعامل مع التعدد الثقافي في إطار منظومة قيمية معينة تنصهر فيها التعددية وربما تندثر. هل يمكن أن نقر بتعددية المجتمعات في الوقت الذي ننتظر من المهاجرين أن ينصهروا في ثقافة بلد الاستقبال؟ هل الاندماح مناف لطبيعة ومفهوم التعدد الثقافي؟

للإجابة على هذه الأسئلة لا بد من طرح بعض القضايا النطرية والساسية.

أولا، فعل الهجرة إلى أوربا هو نتيجة للفعل الكولونيالي. إعادة بنءا أوربا فيما بعد الحرب العالمية الثانية تطلبت يد عاملة وكان من الطبيعي أن أبناء المستعمرات يقصدون دول المتربول لأسباب لغوية وثقافية وسياسية. "رعايا الامبراطوريات الكولونيالية" كما يسميهم إدوارد سعيد ومنظرو خطاب ما بعد الكولونيالية يؤسسون لخطابات ونتوءات ثقافية جديدة تأخد منطلقها من اللقاء الكولونيالي وتخلق تبعيات ومثاقفات وأخذ ورد ورفض ونقد ولكن الكل ينخرط في إطار ثقافة المتروبول الفرنسية أو الانجليزية أو الهولندية…صدمة الحداثة التي أتى بها الاستعمار ولدت نوعا من التداخل الثقافي (إن لم نقل التبعية القيمية) جعل أبناء المستعمرات ينجذبون أكثر إلى ثقافة المتروبول.

ثانيا، عملية الاندماج الثقافي والمجتمعي للمهاجرين لم تكن كلها فاشلة. هناك مجتمعات في أمريكا وكندا والمملكة المتحدة واستراليا ونيو زيلاندة عرفت تجارب لا بأس بها في هذا الإطار.

ولكن هذا تم في إطار سيطرة منظومة قيمية (بيضاء وميسحية في أغلبها) قوية وواثقة من نفسها هي المرجعية الأساسية في إنتاج القيم والسلوك المجتمعي. ما أن تم تقويض سيطرة هذه المنظومة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي عبر ما أصبح يعرف ب"التعدد الثقافي" وصعود أفكار التعددية والخصوصية الثقافية لتصبح مكونات أساسية في سياسات التنمية لدى حكومات بعينها، حتى طفت على السطح أصوات معادية للتعدد الثقافي ولما يسمى ب"التصحيح السياسي" political correctness.

ثالثا، الإقراربالتعدد في بعض المجتمعات الأوربية أدى إلى انغلاق مجموعات إثنية على نفسها وخلق كيتوهات ثقافية وسوسيولوجية خارجة عن سياق الثقافة السائدة وما هو متوافق عليه عامة. هذه الفضاءات الإثنية خلقت ثقافات هجينة تحاول أن تكون بديلة ولكنها فقط هامشية ومهمشة ولا تساهم في صقل سلوكات متطورة تساهم في النقاشات العامة المهمة لمجتمعات المهجر، بقدر ما تعيد اجترار خطابات قروسطية تمت إعادة فبركتها من طرف حركات محافظة (جهادية ومتطرفة في بعض الأحيان) تمولها أطراف خارجية.

رابعا، المجموعات الاثنية ومجموعات الهجرة تعبش استيلابا مزدوجا وهو ما يحعلها ضحية خطاب التطرف. فهي تعيش على هامش مجتمع الهجرة لأنها مهمشة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا. إنها تعيش استيلابا هوياتيا في علاقتها مع ثقافة المهجر: صدمة الحداثة ولدت لديها مقاومة ثقافية جعلتها تجد الملاذ في كلما ما هو إثني أو شبه ديني يضمن الصلة مع الذاكرة وبلد الانتماء الأصلي. من جهة أخرى، عملية المثاقفة مع بلد المهجر تحدث تغييرا ما في السلوك الاجتماعي يجعل المهاجر "غريبا" نوعا في علاقته مع مجتمعات الانتماء الأصلي التي تكون قد تطورت وتغيرت ولم تعد تلك الفضاءات النوستالجية التي تحن لها ذاكرة المهاجر. هذا استيلاب من نوع آخر. هذا الاسيتلاب المزدوج هو ما يجعل شباب المهجر يبحث عن نماذج ومثل وقدوات أخرى، قد يجدها في الخطاب الجهادي الحافل ب"البطولات" و"الإغرءات" و "النجاحات."

خامسا، سياسة التأطير الديني من طرف دول المهجر ودول المصدر لازالت لم تعط أكلها بعد. هناك تجارب لابأس بها من طرف دول كالمغرب بشراكة مع فرنسا أو هولندا لو بلجيكا لوضع منظومة لتأهيل الحقل الديني وممارسة الشعائر ولكن التأطير يبقى عرضة تضارب مصالح دول الانتماء الأصلي في فهمها أو تقديرها لعلاقة مهاجريها مع القضايا الدينية في المهجر والأساليب المستعملة من طرف الكثير من الدول والفاعلين تبقى تقليدية ووسائلها محدودة وخطابها دفاعي وتواجدها لا يصل إلى الشباب والمؤثرين.

ما العمل اذا؟ ما أقترحه هنا هي بعض الأفكار لالتماس الحلول لقضايا معقدة تستوجب رصدا سوسيولوجيا عميقا وسياسات متطورة  وناجعة تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل بلد بلد وطبيعة الهجرة وعلاقة المهاجرين مع البلد الأصلي…

يجب أولا فتح نقاش عريض ومجتمعي حول علاقة الدولة العلمانية  بحاجة بعض المهاجرين لممارسة شعائر دينية وتبني سلوكات مجتمعية ذات إيحاءات دينية. السقف الغير ممكن تجاوزه هو وحدة المجتمعات وصيانة كينونتها السياسية والثقافية في إطار مقاربة تتوخى الانفتاح والاندماج. من حانب آخر، ليست كل أنواع العلمانية في الغرب معادية للدين والبعض منها تم التأسيس لها لحماية الممارسة الدينية (كما هو الحال في أمريكا مثلا).

هذا كذلك يقتضي نقاشا حول إسلام المهجر كذلك: ماذا يعني؟ ما هي ثوابته؟ ما هي متغيراته؟ كيف يمكن له أن يساهم في استلهام الحلول لقضايا الدولة والمجتمع في دول المهجر وألا يبقى هامشيا، محافظا، ويعيش في زمن غير الزمن الحاضر؟ هذه قضايا على أبناء المهجر أن تكون لهم الجرأة الكافية لطرحها خصوصا وأنهم يعيشون في مجتمعات تنعم بحرية الفكر والعقيدة وسيادة الحق والقانون.

ثانيا، على الدول الاوربية أن تتبنى تعدديتها الثقافية والإثنية والدينية دستوريا وسياسيا. وهذا يعني اعتماد مقاربة قوامها علاقة جدلية مستمرة ومتجادبة (وحتى متنازعة في بعض الأحيان) بين القيم والحقوق الوطنية وتلك المتعارف عليها دوليا وتلك التي يقوم أبناء المهجر في التأسيس لها عبر علاقاتهم المعقدة مع ثقافة دول الانتماء وثقافة دول المهجر. إخراج منظومة قيمية دينامية مبنية على التوافق والنقاش والجدال والتعايش في ظل الاختلاف، تتوخى تجاوز التراتبية القيمية الموجودة حاليا، هو الهدف المنشود. وهذا يتطلب بعد نظر ونجاعة غي تدبير الصراع الثقافي وفهم عمق الخلاف والاختلاف مع استلهام المشترك الانساني والتاريخي.

ثالثا، سن سياسات فعالة للإدماج المهني والاقتصادي لشباب المهجر وتنمية فضاءات الهامش والغيتوهات الإثنية في إطار استراتيجية تحاول تجاوز التقوقع على الذات الإثنية le communautarisme وهذا لا يمكن أن يكون دون فهم سوسيولوجي لتطلعات المهاجر وطموحاته وكفاياته. الثقافة أساسية للتنمية ولا يمكن مباشرة إدماج حقيقي وفعال في ظل الاختلاف دون فهم تأثيرها على السلوك الاجتماعي وذاخل المقاولة وفي المعاملات الاقتصادية والتجارية.

رابعا، دعم منظمات المجتمع المدني العاملة في ميدان الهجرة خصوصا تلك التي لها قدرة على التأطير والتعبئة والمرافعة والتشاور مع الساكنة. هذه المنظمات يجب أن تكون لها القدرة الكافية لمحاورة من يهمهم الأمر والمرافعة حول قضايا ذات بعد ثقافي أو سياسي أو ديني. هذه المنظمات بشراكة مع المهاجرين أنفسهم ومع الدولة والمنتخبين ومن يهمهم الأمر تؤطر النقاش حول قضايا الهوية والاعتدال والانخراط في قضايا وطن المهجر الثقافية والسياسية. بلورة خطاب ديني، عصري، منفتح، ديمقراطي، حداثي، يتحاوب وتطلعات الشباب ويتجاوز السكيزوفرينية الثقافية التي يعيشها الكثير منهم أساسية للتجاوب الفعال مع تحديات الهجرة.

الهجرة فرصة ولكنها ستصبح فرصة ضائعة إن نظرنا إليها من وجهة نظر هوياتية ضيقة من هذا الجانب أوذاك. على كل الفرقاء أن يخلقوا قطيعة فكرية ومفاهيمية مع مقاربات الماضي واستلهام المستقبل بروح نقدية وبجرأة سياسية جديدة. هذه مسؤولية الجميع وللبرلمانات دور كبير لتكون رائدة  في خلق التحول ودفع الحكومات والمجتمعات للتفكير في طرق مبتكرة لخلق الطفرة والتطلع إلى المستقبل بأمل.