العثماني كما أعرفه.. برود نفسي وتسيير فردي
وإذا كان صحيحا أن المدة هي قصيرة في الزمن السياسي، إلا أنها كافية نسبيا لرسم ملامح أسلوب الرجل في إدارة الشأن العام وفي ممارسة السياسة من الموقع الحكومي.
وبكل تأكيد، فنحن، والحالة هذه، أمام أسلوب آخر ومغاير تماما لأسلوب سلفه عبد الإله بنكيران.
والعثماني نفسه يقر علانية بهذه الحقيقة حتى أنه قال للملك في جلسة الاستقبال الخاصة بتعيينه رئيسا للحكومة: "يا جلالة الملك، أنا لست عبد الإله بنكيران".
وأثار العثماني قصة الاختلاف بينه وبين بنكيران أمام الملك طمعا في الدعم لحكومته كما سيعترف بذلك أمام "برلمان" الحزب فيما بعد.
والواقع أن ثمة بونا شاسعا بين رئيس حكومة متكلم ورئيس حكومة يلوذ بالصمت حتى في تلك اللحظات التي لا تتطلب هذا الصمت.
لكن دعوني أقول إن ثنائية "الصمت والكلام" لا تفك لوحدها شفرة العثماني وأسلوبه في إدارة دواليب الحكومة.
بل هناك كلمة سحرية كثيرا ما يجنح إليها العثماني لتفسير أسلوبه في إدارة الشأن العام كلما شعر أنه غير مقنع حتى في نظر مناضلي حزبه.
ويقول العثماني في مؤدى هذه الكلمة السحرية: "منهجنا في العدالة والتنمية قائم على التدرج وعلى التوافق مع الدولة".
وفعلا إن الأمر كذلك بحسب أدبيات الحزب وسلوكه السياسي، لكن ما هو ثمن هذا التوافق الذي يتحدث عنه العثماني؟
كل المؤشرات تؤكد على الأرض أن الطبيب النفسي قدم الكثير من التنازلات تحت عنوان التوافق، لكن المقابل كان تقريبا لا شيء.
ويبدو أن التوافق مع الدولة، في نظر العثماني، هو ألا يعارض الحزب أي مطلب جاء من الدولة أو من حواشيها وهوامشها.
أكثر من هذا، فالعثماني ربما يعتقد أن الحزب مطالب بالتفاعل إيجابا حتى مع بعض المطالب التي قد يظن، مجرد ظن، أنها صادرة عن الدولة أو عن جهات سياسية محسوبة عليها.
بل حتى التوافق مع الحلفاء السياسيين له معنى آخر في نظر العثماني. إنه يختزله في هذه الحكمة الشهيرة: "دعه يعمل.. دعه يمر".
وبالطبع، فلاحظوا كيف أن العثماني لم يحرك ساكنا حتى ولو اصطفت بعض مكونات تحالفه الحكومي اصطفافا واضحا مع خصم سياسي لإسقاط البيجيدي انتخابيا.
وقد وقع هذا الاصطفاف العلني بين الحركة الشعبية والبام بالقصر الكبير والهدف واحد وهو الإطاحة البيجيدي من السباق نحو المقعد البرلماني.
وأكيد أن مثل هذه الاصطفافات والتلاعبات لم يكن بنكيران يسمح بها عندما كان رئيسا للحكومة.
بل إن بنكيران كان يقاوم "الألاعيب" بشراسة حتى أنه وبخ وزيرا سياديا اسمه بلمختار أمام المغاربة ومن داخل قبة البرلمان عندما أحس أن الرجل تطاول على صلاحياته في قضية ذات حساسية.
بالمقابل، لاحظنا أيضا كيف أن العثماني التزم الصمت وهو يرى ضربات قوية أخرى توجه إلى حزبه من طرف حليف آخر هو الاتحاد الاشتراكي في شكل افتتاحيات نارية بقلم قيادي اتحادي هو يونس مجاهد.
بل إن افتتاحيات مجاهد وضعت البيجيدي في خانة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة دون أن نسمع للعثماني ركزا بدعوى الحفاظ على هذا التوافق المتوهم.
ويبدو أن العثماني يتمتع ببرود نفسي نادر رغم هذه الضربات المتتالية التي تنهال فوق رأسه.
أولى هذه الضربات هي هزيمة الحزب في أكثر من تسع دوائر في الانتخابات الجزئية.
أما ثاني هذه الضربات فهي عقد تجمعات حزبية ومهرجانات خطابية أمام كراسي فارغة أو بحضور ضعيف لا يتجاوز عدده 300 شخص كلهم أعضاء في الحزب.
ولم تقف الأمور عند هذا الحدل بل إن المجلس الوطني الأخير مر في أجواء باردة وبلا مداخلات وبلا متدخلين وبلا مضمون سياسي.
أكثر من هذا، لقد تأخر ترميم الحكومة تأخرا غير مبرر تجاوز ثلاثة أشهر دون أن تعرف الأسباب إلى حد الآن.
لقد وقعت كل هذه "المصائب" وغيرها الواحدة تلو الأخرى لكن السيد العثماني جمد عقله السياسي وحافظ على بروده النفسي فقط ليرسل هذه الرسالة إلى من يهمهم الأمر: "أنا أشتغل بأسلوب يختلف عن أسلوب بنكيران".
وليس هذا فحسب، فخلال المؤتمر الوطني الأخير للحزب، كاد العثماني أن يفشل في الفوز بمنصب الأمين العام للبيجيدي لولا تعاون بنكيران.
وفعلا فاز العثماني بصعوبة كبيرة على إدريس الأزمي بلا فارق أصوات تقريبا، فيما تصدر معارضو العثماني الأجهزة القيادية للحزب والمجلس الوطني الذي أصبح الآن سلطة مضادة حقيقية لسلطة الأمين العام.
والمؤشر في هذا المنحى هو أن هذا المجلس رفض مسطرة تفعيل قانون التنافي أو الجمع بين المسؤوليات المجالية والمسؤوليات الانتدابية في واقعة تنظيمية نادرة.
ومع ذلك، لم يلتقط العثماني مثل هذه "الإشارات" ليكون أمينا عاما للجميع من خلال استيعاب معطيات سياسية وتنظيمية جديدة اخترقت جسم الحزب.
وهكذا اختار العثماني "أمانة عامة" على المقاس، أي "أمانة عامة" يؤثثها الوزراء والمناصرون له، فيما أبعدت قسرا بعض الأصوات المحسوبة على بنكيران من العضوية في هذا الجهاز التنفيذي في سياق حسابات تحكم فيه قصر النظر عوض بعده.
وهذا القصر في النظر هو الذي جعل بعض "الجهات" تفهم من "قرار" الإطاحة بعبد العالي حامي الدين من الأمانة العامة للبيجيدي هو بمثابة تخلي الحزب عنه في قضية سياسية صرفة حملت عنوان "مقتل الطالب اليساري أيت الجيد قبل 25 سنة مضت".
ولأن كاتب هذه السطور يزعم أنه يعرف العثماني جيدا. فلا بد أن أقول. إن الرجل يشتغل الساعات الطوال، بل يشتغل ليل نهار.
لكن ماذا يفعل؟ الله أعلم.
فهذا هو العثماني. إنه لا يستشير أحدا ولا يشرك في عمله أحدا، بل إنه يفضل أن يشتغل لوحده على الملفات خاصة إذا كانت ذات حساسية.
بقي فقط أن أتساءل عما إذا العثماني يستشير وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان مصطفى الرميد في ملفات التدبير الحكومي.
شخصيا أستبعد هذا الأمر، لكن ما هو مؤكد منه أن حكيم البيجيدي الراحل عبد الله سبق له أن اشتكى من التسيير الفردي للعثماني عندما كان نائبا له.






