الخبر من زاوية أخرى

رجة وسط القضاة.. عندما يتمدد “الصهد” في كل اتجاه

مصطفى الفنمصطفى الفن


كلنا يتذكر كيف انتفض قضاة المجلس الأعلى للسلطة القضائية لئلا ينص التنظيم الداخلي لهذا المجلس على الأحقية في فتح التحقيقات القضائية في الشكايات المجهولة.

وفعلا، فهذه الانتفاضة ربما كان لها ما يبررها لأن الشكاية المجهولة ليست فقط ذلك الإجراء المسطري الذي يرمي إلى استعادة حق مسلوب أو إزالة ظلم مفترض أو رفع ضرر مباشر شخصي أو عام.

وليست الشكاية المجهولة أيضا هي تلك الوشايات الكاذبة والكيدية التي يكون الداعي إليها هو تصفية الحسابات الضيقة والصغيرة وتشويه السمعة والرغبة في الانتقام.

الشكاية المجهولة هي أكثر من هذا. إنها أيضا باب من أبواب جهنم التي لا تبقي ولا تذر.

وأقصد هنا أن الشكاية المجهولة قد تكون أحيانا امتحانا صعبا تختبر فيه جدية الدولة في معركة الإصلاح وتخليق الحياة العامة ومحاربة بؤر الفساد بدون زلازل انتقائية.

بمعنى أن مثل هذا الأمر، والحالة هذه، تصبح له تداعيات سياسية وأخلاقية تمس بسمعة البلد ولو مع وجود قانون تنظيمي شكلي يقضي بإحالة الشكايات المجهولة على سلة المهملات.

وهذا ما وقع بالضبط في نازلة مثيرة جرت وقائعها بالدائرة القضائية لخريبكة وضواحيها قبل أن يتمدد "صهد" الحرج إلى الرباط وفي كل اتجاه داخل دواليب القضاء.

فما هي هذه النازلة المثيرة؟

النازلة تتعلق بشكاية حررها مجهول أو مجهولون ونسبوها إلى مجموعة من المحامين دون أن يكشفوا عن هوياتهم أو الهيئة أو المدينة التي ينتمون إليها.

محررو هذه الشكاية المجهولة، التي راجت على نطاق ضيق بالواتساب، زعموا أنهم أرسلوا نسخة منها إلى الديوان الملكي في شخص مستشار ملكي دون أن يذكروه بالاسم.

بل زعموا أيضا أنهم أرسلوا نسخة ثانية من هذه الشكاية إلى الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية مصطفى فارس ونسخة ثالثة إلى رئيس النيابة العامة للمملكة محمد عبد النباوي.

أما مضامين هذه الشكاية المجهولة فقد نزلت مثل "حجارة من سجيل" فوق رأس قاض شهير باستئنافية خريبكة (م.ب) قضى سنوات طويلة بمدينة الفوسفاط.

أصحاب هذه الشكاية قالوا كل شيء في هذا القاضي حتى أنهم زعموا أنه يملك أسطولا من السيارات ويتاجر فيها، بل ينافس كبار تجار السيارات بالمنطقة.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن أصحاب هذه الشكاية ادعوا أيضا أن قاضي استئنافية خريبكة يتاجر في شؤون الجمركة والتوكيل وكل أنواع "الخردة" بلا تحفظ.

  لكن يبقى المثير في هذا كله هو أن أصحاب هذه الشكاية المجهولة قدموا مزاعم ادعوا فيها أيضا أن هذا القاضي يمني النفس بأن يكون وكيلا للملك بابتدائية أبي الجعد.

ولأن المعني بالأمر يمني النفس بهذا المنصب، وفق مزاعم الشكاية، فقد ترك كل أسطوله للسيارات وترك سيارته ال"مرسيدس" الفاخرة واستقل سيارة مهترئة من نوع بوجو 306 رفقة قاض آخر بمحكمة النقض ذكره أصحاب الشكاية بالاسم (م.ت).

وتسلل الإثنان معا (قاضي خريبكة وقاضي محكمة النقض)، حسب مزاعم الشكاية، ليلة 16 من الشهر الجاري للقاء مسؤول قضائي رفيع المستوى بمحكمة النقض كان في زياة لعائلته في تلك الليلة بقرية تدعى "مريزيك" بهذه المنطقة.

أما الهدف من هذا اللقاء، حسب ادعاءات الشكاية، فكان هو تقديم طلب المساعدة إلى هذا المسؤول القضائي الرفيع  كي يتدخل لفائدة قاضي خريبكة من أجل الحصول على منصب وكيل للملك بأبي الجعد.

لكن ماذا تبين فيما بعد؟

لقد تبين أن هذه الشكاية المجهولة كيدية وقد يكون وراءها ربما زميل في المهنة أو أكثر  وأن أصحابها يريدون الانتقام من قاضي خريبكة لأسباب غير معروفة إلى حد الآن.

أكثر من هذا لقد تبين أيضا أن "خبر" زيارة المسؤول القضائي الرفيع بمحكمة النقض لعائلته بقرية "مريزيك" هو مجرد إشاعة.

والحقيقة أن هذا المسؤول القضائي الرفيع  لم يأت إلى هذه القرية منذ قرابة عامين، أي منذ وفاة والده في فبراير لسنة 2016.

وهو ما يعني أن أصحاب الشكاية خلطوا وقائع وهمية بأخرى قد تكون صحيحة لضرب عصافير كثيرة بحجرة واحدة ولو أن المستهدف في هذه النازلة هو قاضي استئنافية خريبكة في المقام الأول.

وليس هذا فحسب بل تبين أيضا "تهافت" أصحاب الشكاية المجهولة لأن منصب وكيل الملك بأبي الجعد ليس منصبا شاغرا، بل يشغله قاض شاب من نادي القضاة.

ويبدو أن أصحاب الشكاية المجهولة عملوا بمنطق "كبرها تصغار".

وربما لهذا السبب أقحموا جهات عليا في الدولة وكبار المسؤولين في القضاء فقط لئلا تمر شكايتهم ضد قاضي خريبكة في صمت وبلا ضجيج.

نقول هذا ولو أن أصحاب هذه الشكاية المجهولة أنفسهم أشادوا، بالمقابل، بالخصال الحميدة بالمسؤول القضائي الرفيع بمحكمة النقض، أي محمد عبد النباوي، بل إنهم تحدثوا عنه في سياق إيجابي واعترفوا له بالنزاهة وبالابتعاد عن الشبهات.

 والواقع أن هذه الشكاية، التي أراد أصحابها أن تصل إلى الملك، ولو أنها مجهولة وتتضمن اتهامات تحتاج إلى حجج تثبتها إلا أنها خلقت رجة حقيقية وسط القضاة والأجهزة الأمنية في مستويات عليا.

ولأن الأمر كذلك، فقد اضطرت النيابة العامة بخريبكة إلى مباشرة تحريات استثنائية لمعرفة بطل هذا الشكاية المجهولة أو أبطالها المفترضين، وفق ما علمه هذا الموقع الناشئ "آذار".

نعم لقد فتحت النيابة  العامة بهذه المدينة تحرياتها في هذه النازلة على الرغم من أن بطل الشكاية أو أبطالها  مجهولون وغير معروفين، وعلى الرغم من وجود قانون تنظيمي له منطوق معاكس لمثل هذا الإجراء المسطري.

وحسنا هذا الذي فعلت النيابة العامة، لأن التزام الصمت في هذه القضايا الحساسة لن يثير إلا اللبس والشك.

بل المطلوب في مثل هذه القضايا الحساسة أن نحتكم إلى الذي هو أسمى من هذه القوانين التنظيمية لهذا الجهاز أو ذاك.

وليس هناك أسمى من الاحتكام إلى روح الوثيقة الدستورية الجديدة حتى يظل القاضي دائما هو تلك القبلة التي يتوجه إليها الجميع في لحظة التيه.

لماذا نقول هذا الكلام؟

لأننا فعلا نخشى أن تباع ملفات المتقاضين في أسواق السيارات و"الخردة" خاصة إذا تجرد القاضي من "الضمير المسؤول". والعبارة هنا مقتطفة من خطاب ملكي توجه به العاهل المغربي إلى جسم القضاة ذات سياق.