حتى لا تصاب بنية الدولة ب”تختر” الدم
أن تجري وزارة الداخلية حركة انتقالية واسعة لتشمل قرابة 50 في المائة من رجالها فهذا قرار يستحق، بلا شك، كل التنويه وكل الإشادة..
وقع هذا قبل بضعة أيام..
وجاء هذا القرار، وفق بلاغ للوزارة، تنفيذا لتعليمات ملكية دعت إلى تحقيق فعالية أكبر وترشيد أمثل للموارد البشرية وسط هيئة رجال السلطة..
كما جاء هذا القرار أيضا في سياق المراهنة على تكريس معايير الكفاءة والاستحقاق في تولي مناصب المسؤولية، بحسب ما ذكر البلاغ نفسه..
لكن هذه الحركة الانتقالية تبقى “ناقصة” ما لم يعقبها تفعيل المبدأ الدستوري الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة..
وتفعيل هذا المبدأ يفرض، معلوما من الدين بالضرورة، أن يتم البحث في مصدر ثروات بعض رجال السلطة..
وأقول بعض رجال السلطة وليس كل رجال السلطة لأن هذا “البعض” قد يكون اغتنى في ظروف غامضة..
وعندما يغتني رجل السلطة في ظروف غامضة أو بغير وجه حق، تضل التنمية طريقها وتتعثر المشاريع وتضيع الحقوق وتكثر المظالم المفتوحة على المجهول..
أغلق هذا القوس وأعود على عجل إلى الأهم..
والأهم هو أن هذه الحركة الانتقالية التي أجرتها وزارة الداخلية في صفوفها ينبغي أن تتمدد في اتجاه أجسام أخرى داخل بنية الدولة..
أما لماذا؟
فحتى لا تصاب البنية بكاملها ب”تصلب” الشرايين وب”تختر” الدم..
وبالطبع فثمة أجسام داخل بنية الدولة تحتاج فعلا إلى مثل هذه الحركات الانتقالية الواسعة..
ولعل أول جسم معني ربما بحركة انتقالية واسعة بمفعول الرجة أو حتى بمفعول العلاج بالصدمة، هو جسم القضاء..
لكن لماذا جسم القضاء تحديدا؟
أقول جسم القضاء لكن ليس لأن هذا الجسم عرف مؤخرا انفجار ملفات فساد ورشاوى وجنس بطعم الاتجار بالبشر وتكوين عصابة إجرامية وحتى اعتقالات في صفوف بعض رجال القضاة..
لا..
بل لأن هذا الجسم له رمزية خاصة ممتدة في التاريخ وفي الجغرافيا وفي الحاضر وفي المستقبل أيضا..
ولأن هذا الجسم هو أساس الملك وهو أساس بناء الدولة وهو أساس استمراريتها وهو أساس ممارسة السلطة والحكم..
ولأن هذا الجسم أيضا هو الملاذ الأول والأخير للناس أجمعين عندما يشعرون بالتيه أو بالظلم..
كما أن هذه الحركة الانتقالية داخل جسم القضاء أصبحت اليوم ربما ضرورة ملحة مطروحة على جدول أعمال الدورات القادمة للمجلس..
وهذا هو المفترض لأنه أصبح عندنا اليوم ربما أكثر من 50 قاضيا قضوا على الأقل 8 سنوات، فما فوق، فوق كرسي المسؤولية دون أن تشملهم أي حركة انتقالية..
ثم علينا ألا ننسى أيضا “أصل الحكاية” وهو أن هناك انتظارات عريضة علقت على الرئاسة المنتدبة الجديدة للمجلس..
وهي انتظارات علقت ليس من طرف المغاربة فقط وإنما من طرف الجهات العليا أيضا..
بل هناك من نسب إلى هذه الجهات العليا قولها:
“إن جلالته ينتظر والمغاربة ينتظرون..”..
حصل كل هذا خاصة بعد انفصال النيابة العامة عن وزارة العدل في أفق الدفع في اتجاه تجسيد فعلي لاستقلال السلطة القضائية..
ولعل الخطوة الأولى في معركة استقلال السلطة القضائية هو هو إعادة الثقة إلى هذا الجهاز الذي لا يخلو من الشرفاء مهما أطلنا النظر إلى نصف الكأس الفارغ …
صحيح أنه لا يزال الوقت مبكرا لتقييم حصيلة عمل المجلس في نسخته الحالية طالما أن تجربة الطلاق بين النيابة العامة والوزارة لا زالت في بدايتها ولا زالت في حاجة إلى عنصر الزمن…
كما لا يزال الوقت مبكرا للحكم على هذه التجربة سواء بالنجاح أو بالفشل طالما أن المجلس الحالي ورث تركة ثقيلة من الماضي لأسباب متعددة قد أعود إليها في مقال آخر..
وطالما أيضا أن هناك أصواتا ومكونات هي جزء من منظومة العدالة لكنها لازالت تشتغل ضد أي جهود تقود رأسا إلى إنجاح ورش استقلال السلطة القضائية..
شخصيا لا أفهم في هذا المنحى كيف أن المجلس قام، في سياق تخليق مرافق بيته الداخلي، بقرار جريء وشجاع أحال فيه “شخصا” على التقاعد كان قاب قوسين أو أدنى من تشكيل بنية موازية للمجلس في مرحلة سابقة ..
بل إن هذا “الشخص” جمع مالا وعدده وكاد أن يظهر في مجلة “فوربس” لولا نزول قرار الإحالة على التقاعد..
لكن الذي وقع هو أن هيئة للمحامين لم تر أي مانع في تسجيل هذا “الشخص” ضمن صفوفها بدون أي تحفظ..
وقع هذا رغم أن معركة تخليق منظومة العدالة، التي قطعنا فيها أشواطا هامة طيلة هذه ال23 سنة من العهد الجديد، هي مسؤولية جميع مكونات العدالة بما فيها هيئات المحامين والجمعيات المهنية القضائية وليس مسؤولية المجلس فقط..
ومع ذلك لا أحد ينكر المجهوت “المعتبرة” التي بذلها المجلس في نسخته الحالية..
وأول هذه المجهودات هو إخراج قانون مهم وهو قانون التفتيش..
وهذه مناسبة لأقول أيضا إن مفتشية المجلس، التي تتوفر على خيرة الأطر والموظفين، لازالت ربما في حاجة إلى تعزيزها بمزيد من الموارد البشرية الكفؤة نظرا لجسامة المهام الموكولة إليها..
كما تمثلت مجهودات المجلس أيضا في إحداث آلية ثلاثية للتنسيق بين المجلس والنيابة العامة وزراة العدل..
أكثر من هذا لقد وصلت المجهودات على مستوى التخليق إلى حد توجيه تأديبات معلنة وأخرى غير معلنة..
كما وصلت هذه المجهودات وصلت أيضا إلى حد “الاعتراض” على ترشح عدد من القضاة خلال الاستحقاقات الانتخابية الخاصة بهذا الجهاز..
أما الهدف الأسمى فهو تعزيز مزيد من الجهود الرامية إلى وضع استقلالية السلطة القضائية على السكة الصحيحة..
لكن مع إدراك مسبق بأن استقلالية السلطة القضائية ليست قرارا ينزل من فوق وإنما طريق شاق وطويل ويحتاج الى أعمار أجيال وليس إلى أعمار أشخاص..