الدار البيضاء.. من أجل مدينة خالية من “قطاع الطرق”..
قبل بضعة أيام، حل الملك محمد السادس هنا بالدار البيضاء التي سبق لجلالته حفظه الله أن خصص لها خطابا “ناريا” كله “تقريع” لمسؤوليها سواء كانون منتخبين أو معينين..
حصل هذا في جلسة افتتاحية للبرلمان من سنة 2013..
وكان الملك أيضا قد قضى أطول فترة تجاوزت ربما الشهرين متتابعين هنا بهذه المدينة العملاقة التي قال عنها في الخطاب الافتتاحي نفسه:
“أعرف الدار البيضاء جيدا، وتربطني بأهلها مشاعر عاطفية، من المحبة والوفاء، التي أكنها لجميع المغاربة”..
ويتذكر كاتب هذه السطور أنه شاهد جلالته، ببروطوكول أمني مخفف، وربما أكثر من مرة، وهو يقوم بجولات استجمامية بشوارع المدينة أو وهو يتوقف بسيارته عند الإشارات الضوئية الحمراء..
كما أن الملك تحدث في هذا الخطاب الملكي أيضا عما هو أهم وهو وجود “إرادة قوية لجعل الدار البيضاء قاطرة للتنمية وقطبا ماليا دوليا”..
لكن الذي حصل فيما بعد وهو أنه رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة على هذا الخطاب “الناري” الذي رصد فيه ملك البلاد الكثير من الاختلالات والكثير من الأعطاب التي تخترق هذه المدينة..
ورغم كل هذه الأموال والميزانيات الضخمة التي تم رصدها للدار البيضاء مقارنة بباقي المدن الأخرى..
رغم هذا كله، إلا أن هذه المدينة ظلت دائما مدينة التناقضات..
وظلت دائما مدينة المفارقات..
وظلت دائما مدينة العجائب والغرائب..
وظلت دائما مدينة لا يذكر اسمها إلا مرتبطا ب”أسوأ” نموذج ترابي في التسيير وفي التدبير..
وظلت دائما مدينة مرتبطة، في الأذهان، بسوء الحكامة وبالاغتناء المفاجئ لبضعة “قطاع طرق” يترددون على السعودية لأداء مناسك “الحج ولأداء مناسك “العمرة” أكثر من مرة في العام دون أن يكون لهم ماض في الثراء ولا في عالم المال والأعمال..
وظلت الدار البيضاء أيضا مدينة مرتبطة، في الأذهان، بليل عين الذياب..
والواقع أن مدينة مثل الدار البيضاء ينبغي أن يرتبط اسمها بأحسن النخب وأيضا بمخطط تنموي وبرؤية ممتدة في الزمن وجاهزة لاستيعاب الأجيال القادمة كما هو حال كل المدن الكبيرة في بقية أنحاء العالم..
وظلت الدار البيضاء أيضا مدينة مرتبطة في الأذهان بشبكات السطو على العقارات السائبة إلى درجة أن هذه الشبكات استطاعت أن تتلاعب حتى في مقررات جماعية وفي اتفاقيات بميزانيات كبيرة صادقت عليها مجالس منتخبة..
كما ظلت الدار البيضاء أيضا مدينة مرتبطة، في الأذهان، بأكبر ملف عقاري تواطأت فيها شخصيات وازنة وحققت فيه حتى الفرقة الوطنية الشرطية القضائية قبل أن تتعثر هذه القضية في منتصف الطريق لأسباب غير معروفة..
وأخشى ربما أن تكون هذه القضية تعثرت في منتصف الطريق فقط لأن “بطلها” هو الآن شخصية نافذة وكبيرة وقيادية في الحزب الذي يقود حكومة المغرب..
وأتحدث هنا عن قضية المسؤول الجماعي الذي فوت لزوجته أرضا من أراضي الدولة بحي الوازيس قيمتها المالية تتجاوز اليوم 80 مليار سنتيم قبل أن تقوم الزوجة بتفويت هذه الأرض إلى الزوج نفسه على شكل “صدقة”..
يجري هذا في وقت هناك صرامة غير عادية مع تدوينة من بضع كلمات لمزاليط قهرهم الغلاء وقهرهم المخطط الأخضر الذي تحول إلى أحمر بلون جهنم..
كما أن الدار البيضاء ارتبطت أيضا في الأذهان ببعض أصحاب السوابق الذين ظلوا يتحكمون من قلب الفيلا المعلومة في المستثمرين وفي المجالس المنتخبة وفي الخريطة الانتخابية وفي التزكيات الانتخابية المذرة للدخل والجاه والنفوذ..
بل إن البعض من سكان هذه الفيلا ذهبوا بعيدا حتى أنهم تسربوا إلى المؤسسات وزاوجوا من داخلها بين السياسة وبين الاتجار الدولي في المخدرات ومعه الاتجار في كل شيء يتحرك فوق الأرض..
وربما لهذا السبب، وجد البعض نفسه في السجن وآخرون اختاروا المنفى، فيما اضطر صنف ثالث إلى الاختباء والتواري إلى الخلف في انتظار أن تمر العاصفة..
وظلت الدار البيضاء أيضا مدينة مرتبطة بأغنى “معلم” في شمال إفريقيا وأيضا بنخب تأكل من السياسة ومن الرياضة ومن أندية رياضية ومن ملاعب القرب..
وارتبطت أيضا بمنتخببن بعضهم أو جلهم تطارده شبهة تنازع المصالح رغم وجود دورية لوزارة الداخلية تجرم هذا التنازع الذي تحول، في سياق ملتبس، إلى “تسامح” مبالغ فيه..
حصل هذا حتى أن عمدة المدينة ومن معها “يرفضون” الدفع في اتجاه تنفيذ أحكام قضائية نهائية تقضي باسترجاع ممتلكات مملوكة للجماعة رغم أن هذه الممتلكات لا تعود، على ميزانية الجماعة، سوى بالفتات..
أما سبب هذا “الرفض” المنهجي فهو الخوف على تفكك هذا التحالف الرباعي الذي يسير بهذه المدينة، حتما، إلى “حتفها”..
وأيضا لأن المستفيدين من هذه الممتلكات الجماعية بصفر درهم هم أصلا جزء من هذا التحالف..
ولا بأس أن نذكر في سياق هذا “الانفلات” بأن مسؤولي المدينة فوتوا قطاع التعمير في أكبر مدينة بالمغرب إلى صاحب أكبر وأخطر ملف في خروقات التعمير..
وهذا في نظري هو، ربما، أكبر تسفيه وأكبر تبخيس ليس للدستور وللقانون ولدورية وزير الداخلية فقط..
ولكن أيضا حتى للخطابات وللتعليمات الملكية في مجال تخليق الحياة السياسية وفي مجال تخليق تدبير الشأن العام..
طبعا، بعض المسؤولين الترابيين (وأقول البعض لا الكل) الذين تعاقبوا على إدارة الدار البيضاء يتحملون نصيبهم من المسؤولية في هذه الصورة القاتمة التي علقت بهذه المدينة المترامية الأطراف..
ودعوني أحكي لكم “بعض” ما قاله لي العمدة الأسبق للدار البيضاء محمد ساجد، ونحن نتبادل أطراف الحديث في منزله في سياق مضى، عن مسؤول ترابي سابق مر من هذه المدينة:
“هذا الوالي كارثة”..
وقد فهمت من جواب ساجد بأن المعني بالأمر، الذي عينه جلالته للنهوض بأوضاع العاصمة الاقتصادية للبلد، أهدر الكثير من زمن البيضاويين ومن زمن وتنمية الدار البيضاء قبل أن يرحل دون أن يقدم أي حساب..
ولن أطيل في باقي التفاصيل حتى لا أنسى ما هو أهم..
والأهم اليوم هو أننا لمسنا مع الوالي الجديد بعض السلاسة وبعض الانسيابية في تحريك العديد من المشاريع المتعثرة..
كما لمسنا أيضا هذه الانسيابية في حركة السير وفي شق الطرقات وفي إصلاح الشوارع والأزفة..
يحصل هذا حتى لو أن السياسي أو المنتخب لم يعد له ربما أي دور أو حضور فعلي في شؤون التدبير والتسيير بالمدينة..
لكن هذا لا يعني أن كل شيء يسير على أحسن ما يرام..
والواقع أن الدار البيضاء لا زالت ربما في حاجة إلى الكثير من المجهودات ومن العمل ومن النحت على الصخر لعلها تصبح مدينة عالمية نظيفة وخالية من “قطاع الطرق”..
وأيضا لعلها تصبح مدينة جديرة باحتضان هذه الاستحقاقات والمنافسات الرياضية القارية والدولية المرتقبة ببلادنا خلال السنوات القادمة..
..