عندما أريد للرميد أن يعتذر إذا ما عينه الملك رئيسا للحكومة في فترة “البلوكاج”
عندما غادر مصطفى الرميد منصبه الحكومي والوزاري، زرته بمنزله هنا بالدار البيضاء..
حصل هذا في يناير من سنة 2022 إذا لم تخنني الذاكرة..
وليس سرا أن منزل الرميد كان دائما قبلة مفتوحة للناس وربما من كل المشارب..
وأنا واحد من الصحافيين الذين لديهم “دعوة مفتوحة” لزيارة صاحب هذا المنزل في أي وقت..
نعم هكذا قال لي الرميد نفسه..
وأعترف بأني لم أوظف هذا “الامتياز” إلا مرة واحدة ولا أزور الرميد ولا أتصل به إلا إذا كان هناك داع مهني..
وما أكثر زوار منزل الرميد من الصحافيين ومن غير الصحافيين لأن ابن دكالة ليس شخصية عمومية فقط..
الرميد كان دائما الرجل الثاني في حزب البيجيدي وكان ربما أيضا بنفس هذا الوضع الاعتباري في ولايتين حكوميتين..
بل إن الرميد كان، في بعض الأحيان أو في بعض محطات “التماس” بين الدولة والبيجيدي، هو المخاطب رقم واحد للدولة داخل الحزب..
وإذا كان منزل بنكيران اشتهر بحلويات “كعب غزال” فإن منزل الرميد عرف بما هو “رئيسي” في المطبخ المغربي.
وأتحدث هنا عن “كسكس بلدي” أو قل عن “كسكس ملكي” سارت بذكره الركبان..
وهذا “الكسكس”، الذي عرف به منزل الرميد، تحدث عنه البعض حتى في حضرة “السلطان” ذات مناسبة “خلت” من البرتوكول.
أغلق هذا الهامش وأعود سريعا إلى المتن لأن اللقاء حول وجبة “كسكس” كان أيضا مناسبة للحديث في السياسة وعن السياسة وعن كل شيء له صلة بالسياسة..
وأسجل ابتداء أن الرميد، الذي جلست إليه وقتها هو ربما غير الرميد الذي كان قبل أن يعتزل السياسة بالمعنى الحزبي والانتخابي..
ولا أقول هنا إن الرميد “زهد” في كل شيء أو أنه أحدث قطيعة تامة مع ماضيه السياسي ومع حياة وعادات وناس ما قبل الاعتزال..
لا..
كل ما في الأمر أني لاحظت منذ الوهلة الأولى أن منزل الرميد لم يعد في حراسته أي رجل أمن كما كان عليه الحال طيلة عشر سنوات مضت..
لكني عرفت فيما بعد أن الرميد نفسه هو الذي “اعتذر” في أدب يليق بالمقام على الاحتفاظ بهذه الحراسة الأمنية في بلد مطمئن وآمن اسمه المغرب..
كما عرفت أيضا أن الرميد لم يطلب ذلك التقاعد الوزاري الذي تمنحه الدولة للوزراء عقب نهاية مهامهم الحكومية..
الرميد لم يطلب هذا التقاعد لأنه محام بمكتب تديره ابنته ولأنه أيضا استأنف “جزئيا” عمله وصار يتردد على مكتبه بين الفينة والأخرى..
بل إن الرميد، الذي كان وزيرا للدولة ووزيرا للعدل والذي كان يجمع بين الوزارة والنيابة العامة، أصبح يفكر وقتها فيما هو أبعد من ذلك..
إنه كان يفكر ولو بعد حين في العودة إلى قاعات المحاكم للترافع أمام القضاة وأمام المحاكم في الملفات التي قد توضع فوق مكتبه..
أوليس هذا هو ما فعله بالضبط الزعيم الوطني والاتحادي الراحل عبد الرحيم بوعبيد بعد مدة قصيرة على رحيله من المنصب الحكومي؟
بلى..
كما أن الرميد لم يطلب هذا التقاعد الوزاري ليس بدافع “شعبوي” ولكن “لأنها مستورة والحمد لله”..
وربما كان سيفعل ذلك لو لم يكن الأمر كذلك..
والواقع أن الرميد الذي زرت، وقتها، كان مشغولا أكثر بجسد “أتعبه” المرض وخضع لأكثر من عملية جراحية صعبة كان لها ما بعدها..
بل لازالت “الندوب” والأخاديد” التي تركها مقص الطبيب شاهدة على عمق الجرح وعلى غور الألم..
لكن، وعلى الرغم من كل هذا، فالرميد، الذي زرت، كان تلك المرة بمزاج رائق بعدما نجا من “المكروه” بمعجزة ربانية..
وأستطيع أن أقول أيضا إن الرميد، الذي زرت، كان ب”مورال” عال وهو يرى أن هذا الجسد “العليل” أخذ يستعيد عافيته ولو ببطء ولو يوما بيوم..
لكن في مقابل هذه الصور التي تبعث الأمل في النفس، ثمة صورا أخرى “تشوش” على البال..
وبدا لي شخصيا أن الرميد، الذي يتماثل للشفاء من داء أصاب الجسد، لازال “ربما” لم “يتماثل” بعد للشفاء من “جرح” آخر..
إنه “جرح نفسي” سببه بعض الإخوة من الحزب الواحد والتاريخ الواحد والمصير الواحد والدين الواحد..
“ولا سامح الله البعض لا في الدنيا ولا في الآخرة طالما لم يعتذروا عن الإساءات الكبيرة التي لم يكن لها أي داع.. “..
هل قال الرميد مثل هذه العبارة أم أنه خيل إلي ليس إلا؟
لم أعد أتذكر جيدا..
لكن انتابني إحساس كما لو أن الرميد كاد أن يقول ما يشبه هذا الكلام وربما كاد أيضا أن يذكر اسما بعينه..
وهذا رد فعل عفوي متفهم لأن “الأنا” الدكالية قد تتقبل ربما كل “الضربات” التي قد تأتي من الخصوم مهما كانت قاسية ولاذعة..
لكنها لن تتقبل ربما أن تأتي الضربات والطعنات ممن هم في حكم الإخوة ويعرفون معدن الرجل عن قرب وسافروا معه الى كل بقاع الدنيا وعاشروه “العمر السياسي” كله..
ولا يرمي الرميد بنفسه بريئا أو يزعم أنه لا يتحمل أي جزء من المسؤولية في هذا “الانهيار” الذي لحق بالبيجيدي في الانتخابات الأخيرة..
أبدًا..
والمؤكد في هذا المنحى أن الرجل مستعد للمحاسبة حتى وهو الآن خارج الحزب..
كما أن الرميد لن يجد أي حرج في أن يضع نفسه في أي وقت رهن إشارة محكمة الحزب لتصدر في حقه ما تشاء من قرارات..
لكن الرميد يدعو إلى محاسبة تتوجه بالتحديد إلى “الأخطاء” المفترضة وحتى إلى “الأخطاء الجسيمة” و”القرارات السيئة” الناجمة عن “سوء التقدير السياسي” تحديدا..
لكنه في الوقت نفسه هو ضد “المحاسبة” التي تفترض مسبقا “سوء النية” والطعن في الذمم والاتهام ب”الخيانة”..
وهذا معناه أن الرميد هو ضد المحاسبة التي تقدم قادة الحزب إلى الرأي العام كما لو أنهم “مدسوسون” أو “عملاء” يجوز جلدهم وقطيعتهم والتبرؤ منهم في “أوراق الزبدة”..
كما أنه إذا كان من الضروري أن تكون المحاسبة فينبغي أن تشمل هذه المسطرة كل من “أخطأ” من قادة الحزب مهما كان موقعه..
لماذا؟
لأنه لا وجود ل”امتياز قضائي” بمسطرة خاصة داخل حزب بمرجعية إسلامية وحامل لمشروع ولقيم ولرؤية ولمبادئ..
هكذا بدا لي المشهد وأنا أستنطق نبرة وثنايا الكلمات الملغزة في حديث الرميد..
لكن الإشارة هنا واضحة وتضع الحزب بكامله في مأزق “أخلاقي” وسياسي أيضا..
لماذا؟
بكل بساطة لأن مؤسسات الحزب لم تعد قادرة ربما على محاسبة شخصيات بعينها..
في هذا الخضم كله، لاح في الأفق أيضا سؤال آخر وأنا أتحدث الى الرميد:
ثم ما جدوى البحث عن أسباب “انهيار” البيجيدي إذا كان أمينه العام الحالي لم يشارك في حملة انتخابية ولم يدع أصلا إلى التصويت على مرشحي الحزب في انتخابات ال8 من شتنبر؟
وهذا سؤال من الأهمية بمكان لأنه يضع جميع مناضلي الحزب أمام هذه الحقيقة المرة:
من الصعب أن يفوز حزب في استحقاق انتخابي إذا كان بعض أهله وبعض مؤسسيه وبعض قادته لم يكتفوا فقط بمقاطعة حملاته الانتخابية..
بل ذهبوا أبعد من ذلك ورفعوا منسوب “التشويش” عاليا ودعوا “عمليا” و”واقعيا” إلى عدم التصويت على مرشحي الحزب فقط لأنهم كانوا وقتها خارج القيادة..
وهذا معناه أيضا أن الضربات التي وفرت هذه القابلية ل”الانهيار” لم تأت من الخصوم ومن خارج البيحيدي فقط..
الضربات التي وفرت القابلية لهذا “الانهيار” أتت أيضا من داخل الحزب ومن بعض قادته الذين أصبحوا ربما أكبر من الحزب وأكبر من مؤسساته التأديبية أيضا..
أكثر من هذا، فقد قرأت في محيا الرميد ما يشبه ملامح عتاب و”شبه غضب” على حزب أعطاه كل شيء..
لكن الجزاء لم يكن ربما من جنس العمل وإنما كان عدم احترام وكان عدم اعتراف وكان أيضا “جحودا” ممتدا في كل اتجاه..
طبعا لن أروي كل ما دار في هذه الجلسة المطولة مع الرميد طالما أن المجالس أمانات..
وفعلا لقد تحدثنا عن قضايا كثيرة بما في ذلك معنى المشاركة في حكومة في بلد مثل المغرب بمؤسساته السيادية وبملكيته التنفيذية وبدولته العميقة..
لكني لا يمكن أن أختم هذه المقالة دون أن أنقل لكم صورة أخرى من هذه الصور التي قرأتها في محيا الرميد أو قل في محيا “رجل دولة” بحس وطني مهما اختلفت معه..
إنها صورة تكاد تختزل كل شيء عن هذا الإحساس العميق بالجحود من حزب أفنى فيه الرجل حياته..
لكن مقابل هذا الجحود، كانت هناك عناية ملكية “استثنائية” لم تتوقف..
وهي عناية “أزعجت” البعض أو “انزعج” منها البعض حتى أنه أريد للرميد أن يعتذر لجلالة الملك إذا ما عينه رئيسا للحكومة في فترة “البلوكاج”..
وهذه قصة أخرى قد أعود إليها في مقال قادم بإذن الله لأن صاحب هذه العناية ملك.