عز الدين الإدريسي.. رحيل “الحبيب”
مات “الحبيب”..
ورحل عنا “الحبيب”..
وغادرنا “الحبيب”..
“الحبيب” ثم “الحبيب”..
هكذا كنا نناديه..
وهكذا كنا نلقبه نحن أصدقاءه ومحبيه وضيوفه الدائمين والقارين والمترددين، بانتظام، على منزله العامر بالدار البيضاء..
و”الحبيب” هو فعلا كان كذلك:
“حبيب” و”محبوب” وقطعة من “حب” يمشي على الأرض ليوزع رسائل “الحب” ومعها رسائل الطيبوبة على الذي يعرف وعلى الذي لا يعرف..
أتحدث هنا عن الشاعر وعن الأديب وعن المحامي وعما هو أهم من ذلك وهو الإنسان محمد عز الدين الإدريسي..
لقد أسلم “الحبيب” الروح إلى باريها ووارينا جثمانه قبل ثلاثة أيام بعد جنازة مهيبة حضرها الكثير من الأصدقاء حتى أن بعضهم جاء “محطم” النفس و”محطم” الروح من مدن بعيدة..
بل إن شخصيات وازنة من “دار المخزن” تحملت عناء الانتقال إلى منزل عائلة الفقيد لأداء واجب العزاء في وفاة رجل رسم لنفسه، بعناد، مسارا استثنائيا الى حد الإثارة..
كما أدى أيضا، واجب العزاء في وفاة الراحل، مستشار ملكي وازن وسياسيون وبرلمانيون وقضاة ومحامون وإعلاميون ورجال مال وأعمال ومعهم بسطاء من عامة الناس..
شخصيا، عرفت الرجل في سياق عرضي..
لكن ماذا حدث فيما بعد؟
الذي حدث هو أن هذه المعرفة العرضية تحولت إلى صداقة متينة ثم تحولت هذه الصداقة إلى شبه علاقة عائلية حتى أننا كنا لا نفترق إلا لنلتقي من جديد..
في هذه الصداقة الممتدة في الزمان والمكان، أطلعني “الحبيب” رحمه الله على الكثير من أسراره وعلى الكثير من طموحاته وعلى الكثير من أحلامه وعلى الكثير من نجاحاته..
كما أطلعني أيضا حتى عن بعض حوادث السير في طريق الحياة ومعها بعض الإخفاقات والخيبات والانكسارات وربما حتى بعض “الخيانات” غير المتوقعة أيضا..
لكن كل هذا لم يمنع “الحبيب” من أن ينبعث من تحت الرماد أكثر أناقة وأكثر قوة وأكثر حبا للحياة وللسهر وللسمر ولليل وللناس وللأصدقاء كما لو أنه طائر “فينيق” حقيقي..
وربما لا يعرف كثير من الناس أن الراحل عز الدين الإدريسي كان محاميا ناجحا..
ويكفي أن أذكر في هذا المنحنى أن هناك أربعة نقباء والعديد من المحامين الأكفاء تخرجوا أو مروا من مكتب “الحبيب”..
بل إن الراحل ترافع في ملفات ذات حساسية خاصة تجاوزت قضايا الصحافة والنشر لتصل إلى ما هو أكبر من ذلك..
“الحبيب ” دافع عن الحرية ودافع عن حرية الصحافة ودافع عن جريدة العلم في عهد امحمد بوستة وفي عهد عبد الكريم غلاب..
كما ترافع “الحبيب” في ملف الجنيرال أوفقير ومحاولة قلب نظام الحسن الثاني لفائدة الكولونيل محمد أمقران..
وروى لي “الحبيب” نفسه كيف ظلت هذه المحاكمة راسخة في ذهنه خاصة بعد “حدث صغير” سرعان ما كبر ليتخذ صيغة تهديد من طرف الجنيرال الدليمي الذي كان وقتها عضوا في المحكمة العسكرية مع اللعبي:
”Prochainement, tu seras barré du barreau”..
لن أتحدث عن قضايا وعن ملفات أخرى وعن عرائض النقض المحررة بخط يده والتي ظل “الحبيب” يتحدث عنها باعتزاز وبافتخار أيضا..
ولأن “الحبيب” كان صاحب مسار استثنائي في كل شيء، فقد ترك مهنة المحاماة وترك الجمل بما حمل هنا بالمغرب وذهب إلى الكويت وأقام بها أكثر من 11 سنة..
وكان من الممكن أن يظل “الحبيب”طيلة حياته في الكويت لولا أن الرئيس العراقي صدام حسين استيقظ ذات صباح فقرر أن يغزو هذا البلد الشقيق.
ويحكي “الحبيب” كيف نجا من موت محقق بمعجزة من المساء عقب واقعة الهجوم الكويت قبل أن يتمكن في نهاية المطاف من الفرار بجلده والعودة إلى الوطن ليواصل من جديد مسار حياة غير عادي..
في آخر حياته، أصبح “الحبيب” أكثر ارتباطا بالكتابة وبالتأليف عن مواضيع لها علاقة بالسماء لا بالأرض حتى لا أقول إن الرجل كاد “تصوف” أو كاد أن “يتصوف”..
أقصد أن الراحل أصبح أكثر حديثا وكتابة وحتى نظما لقصائد الشعر حول الروح وحول الغيب وحول حياة ما بعد الموت لكن بطريقته وبفلسفته في الحياة..
قبل أن يموت “الحبيب” بأسبوع تقريبا، سأله أحد الأصدقاء مازحا:
“أين سندفنك إذا مت أيها الشاعر”؟
وكان الجواب بهذه الصيغة وهو يضحك ضحكته المعهودة مثل أي طفل بريء:
“إذا مت لا تدفنوني في الدار البيضاء لأن الدار البيضاء فيها الكثير من لصوص المال العام..”..
بقي فقط أن أقول وأنا أرى ملامح هذا هذا اليتم النفسي على وجوه الكثير من أصدقاء “الحبيب”:
رحمك الله أيها الصديق العزيز ولله ما أعطى ولله ما أخذ وإنا على فراقك لمحزنونون جدا جدا جدا..
وإلى جنة الخلد برحمة من الله الرحمن الرحيم.