ثامن مارس.. أتمنى أن تكوني بنفس “الضحكة” الجميلة أيتها الملاك الطاهر
بعد قليل، سيحتفي العالم أجمع باليوم العالمي للمرأة الذي يصادف الثامن من مارس من كل سنة..
وطبعا هناك أكثر من امرأة تستحق أن أهدي لها شخصيا ورودا في هذا العيد الذي كان وسيظل دائما رمزا للجمال وللأناقة وللحب أيضا..
لكن أرى من الضروري أن أعود إلى الوراء لكي أتحدث بمناسبة هذا العيد عن “صباح”..
أعرف ألا أحد منكم يعرف من هي “صباح”؟
والحقيقة أن “صباح” هي تلميذة تقاسمت معي الدراسة في نفس القسم عند استاذي في مادة اللغة العربية وفي مادة “التعذيب” أيضا وأنا أدرس وقتها بالإعدادي..
لم ألتق “صباح” منذ أن افترقنا بعد أن انتهت هذه المرحلة من الدراسة الإعدادية..
كما لا أعرف ماذا فعل الزمن والزمان بهذه الطفلة التي هي اليوم امرأة من جيلي؟
لكني أتذكر جيدا أن هذه التلميذة كانت معروفة وسط الإعدادية ب”ضحكة” لافتة لكنها كانت معروفة أيضا بما هو أكثر من ذلك وهو شخصيتها القوية ..
وها قد مرت الآن كل هذه السنين الطويلة على هذه المحطة الدراسية من زمن مضى..
لكن لا زال اسم “صباح” محفورا في الروح وفي الوجدان وفي الذاكرة أيضا..
حصل هذا لأن “صباح” لم تكن بالنسبة إلي تلميذة عادية..
“صباح” كانت، بالنسبة إلي وربما بالنسبة إلينا جميعا نحن أبناء قسمها في ذلك الوقت، طفلة من “فولاذ” وليس من دم ولحم..
هكذا كنا ننظر إليها نحن أبناء قسمها أو هكذا كنت أنظر إليها شخصيا..
حصل هذا لأن “صباح” كانت بالفعل رمزا للشجاعة..
وكانت رمزا للمواقف البطولية..
وكانت رمزا لمعاني الرجولة..
وكانت أيضا رمزا لقول كلمة الحق عند أستاذ “جائر” و”جلاد” أيضا..
صحيح أن “صباح” كانت مجرد طفلة في ذلك الزمن..
لكنها كانت طفلة بمواقف الكبار حتى أنها استطاعت أن تهزم أخطر عدو للإنسان وهو الخوف..
وأكاد أقول أيضا إن الطفلة “صباح” كانت ربما “الرجل الوحيد” داخل قسم فيه ربما أكثر من 40 تلميذا..
بل إن “صباح” كانت تشبه ربما، بمعايير اليوم، نساء كثيرات في أكثر من حزب سياسي وفي أكثر من هيئة مدنية وفي أكثر من جمعية حقوقية وفي أكثر من تنظيم ووفي أكثر من موقع من مواقع الدفاع عن الغلابة من الناس..
وأكاد أقول أيضا إن “صباح” كانت تشبه ربما، وبمعايير اليوم، نساء كثيرات:
نبيلة منيب، خديجة الرياضي، ندية ياسين والناشطة الفبرارية الراحلة غزلان بنعمر..
وسأشرح يوما ما لماذا ذكرت هنا اسم غزلان بعمر؟..
وأتذكر جيدا كيف دافعت “صباح” عني وبشراسة عندما صوب لي أستاذي في اللغة العربية “بروسة” خشبية أصابت الرأس والوجه وخضبت جسمي بدماء سارت في كل اتجاه..
كما أتذكر أيضا كيف أن جميع التلاميذ انتابهم الرعب وانتابهم الخوف ولزموا الصمت وهم يرون أستاذا “هائجا” خرج عن طوعه وصار مثل “بيتبول” مسعور انفرد ب”ضحيته”..
وحدها “صباح” التي خرجت عن “الإجماع” المزيف وامتلكت الشجاعة وهي تصرخ في وجه الأستاذ أو بالأحرى في وجه “الجلاد”:
“أستاذ، معندكش الحق تضربو.. انت هنا باش تقرينا.. وزايدون هو تغيب عن الدرس لأنه كان مريض”..
هكذا قالت “صباح” للأستاذ بثقة عالية في النفس..
لكن ماذا كان جواب أستاذي وهو يواصل رفس وركل وقذف جسمي العليل بحذائه الثقيل بلا رحمة وبلا شفقة كما لو أني أنا الذي “قتلت” الزعيم الوطني المهدي بنبركة؟
“كان امريض؟.. على الخماس تاع بوه أنا عندي هنا السبيطار…”، هكذا قال الأستاذ للطفلة “صباح”..
لكن “صباح” واصلت مرافعتها في الدفاع عني لتقول ايضا:
“لكن احنا راه أطفال.. وهاذي جريمة أن أستاذ يضرب طفل..”..
المهم مرافعة الطفلة “صباح” لم تخل من كلمات قوية ومن مقاطع شجاعة لم أعد أتذكرها كلها الآن..
لكن أتذكر جيدا أن الأستاذ شعر ببعض الارتباك وربما حتى ببعض الخوف وهو يدافع عن نفسه ليقول أي شيء ولا يكاد يبين..
فماذا أقول تعليقا على كل هذا الذي جرى في وقت مضى؟
صحيح أن هذا الذي جرى هو جزء من الماضي لكن هذا الماضي لازالت ظلاله مستمرة في الحاضر وربما في المستقبل أيضا..
وأقول هذا لأن الإنسان ليس ابن بيئه فقط..
الإنسان هو أيضا ابن ماضيه..
وصحيح أيضا أن هذا الذي جرى في الماضي هو ربما يندرج في حكم “الجرم” غير المشمول بالتقادم..
ومع ذلك، لا أتردد في القول وبصفاء روحي عال:
سامح الله هذا الأستاذ على كل ما ارتكبه في حقنا من “تعذيب” جسدي ولفظي ونفسي..
سامحه الله لأنه هو نفسه كان ربما منتوجا خالصا وضحية مفترض لسياق سياسي عنوانه عقود من الجمر والرصاص..
لكن، فبقدر ما أشعر بالألم عندما أتذكر ذلك الماضي الذي تسبب لنا في كل هذه الجراح والأعطاب فإني سرعان ما أنتشي وأشعر بالأمن والأمان..
لماذا؟
لأن ذلك الماضي الذي أنتج لنا “جلادا” مثل أستاذي في اللغة العربية فإنه أنتج لنا أيضا بالمقابل نساء قادرات على حشر “الجلاد” في الزاوية الضيقة مثل “صباح”..
وأكيد أن “صباح” لازالت حاضرة في ذهن كل تلميذ درس معنا في ذلك القسم..
لأن “صباح” كانت بكل بساطة صوتنا الجماعي في لحظة من لحظات التيه والشك..
ولأنها أيضا كانت الطفلة الوحيدة التي استطاعت أن “تعلق” الجرس في مواجهة استاذ امتهن التدريس ومعه “التعذيب” أيضا..
ترى، أين أنت الآن يا “صباح”؟
أتمنى أن تكوني بخير وبنفس “الضحكة” الجميلة والشخصية القوية أيضا..
وكم وددت لو التقيتك لبضع دقائق ليس لأني أريد أن أهديك إكليل ورد في عيدك العالمي..
ولكن لأني أريد أيضا أن أنحني بين يديك أيتها “الملاك” الطاهر الذي عرض نفسه للخطر دفاعا عن هذا “الجبان” الذي عجز عن الدفاع عن نفسه ولو بنصف كلمة.