العربي طواف يكتب: عن الجائحة والغرور الإنساني.. أو عندما تهزمنا الطبيعة؟!
من مزايا الحجر الصحي المفروض علينا، في هذا الوقت، أنه يتيح للمرء فرصاً كثيرة للتأمل في كثير من القضايا الخاصة والعامة. ومن بين الإشكاليات التي طرحها هذا الوضع، فكرة أن البشرية، كلها، وجدت نفسها في مأزق خطير بسبب كائن مجهري ودقيق يهدد بتدمير مئات السنين من الحضارة الإنسانية.
السؤال المطروح هو: كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ كيف أصبح ذلك ممكناً في الوقت الذي أضحت العلوم والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية في ذروة أدائها، ووصلت المعارف مستوى من التقدم بحيث نعتقد أننا نعرف كل شيء تقريباً عن الإنسان والطبيعة؟
ومع ذلك، فإن هذه المفارقة الغير طبيعية بين الإنسان والطبيعة أو الثقافة والطبيعة هي بالضبط أساس المشكلة؛ بمعنى أن خروج الإنسان وتخليه عن موطنه داخل الطبيعة كجزء لا يتجزأ منها، هو بالذات الموضوع الذي تجب مراجعته.
إن الوضع الحالي للعالم ليس فقط مسألة انتشار وباء "Covid-19"، ولكن الوضع البيئي برمته هو ما يجب أن يدفعنا إلى إعادة النظر في مكانتنا كبشر في العالم. فمنذ فجر التاريخ، تم بناء الإنسانية كفكرة وكمشروع تدريجياً على أساس الإبتعاد عن عالم الطبيعة، إذ ليس للحضارة البشرية أي مبرر أساسي سوى تكريس اختلافها عن هذا العالم الذي غالباً ما يطلق عليه: "عالم الحيوان".
ولكن أهم من التمايز مع الطبيعة، فإن فكرة السيطرة والتحكم في هذه الأخيرة هي المحرك الأساس للتقدم البشري. ومن هذا المنظور، يمكن تفسير الرغبة في السيطرة على الطبيعة بإحساسين غريزيين: الأول هو الخوف – حتى الرعب – من الطبيعة كقوة ضارة محتملة، والثاني هو الرغبة في التغلب عليها واستغلال الموارد والثروات التي تختزنها.
منذ عصر الأنوار في أوروبا ومنظوماته الفكرية التي جعلت الإنسان مركز الكون، لم نعد نخشى الطبيعة. فقد تمكن الإنسان من السيطرة على خوفه. وهكذا، وخلافاً للإعتقاد الشائع، فإن مفهوم الإنسان كقيمة في حد ذاته لا ينطبق فقط على السياق الإجتماعي والسياسي والديني، بل يُفهم قبل كل شيء على أنه غزو كبير للعالم يضع الكائن البشري في مركز كل شيء. وتبعاً لهذا التموقع، تأتي الرغبة في الإستيلاء على كل شيء واستغلال كل ما تحتويه الأرض من خيرات.
في عام 1887، كتب نيتشه في الفصل الثالث من كتابه "جينيالوجيا الأخلاق": "كل مواقفنا تجاه الطبيعة اليوم، انتهاكنا للطبيعة، بمساعدة الآلات والإبتكار الذي لا يمكن تصوره من قبل فنِّيِّينا ومهندسينا، فخراً مفرطاً". فقد أصبح الإنسان وحضارته شرِهاً، غولاً يبتلع كل ما يجد أمامه. إنه الطابع الأساسي للأنثروبوسين (Anthropocene)، كما أنه بداية الحلقة المفرغة "إنتاج – إستهلاك" بغض النظر عن العواقب الضارة من تلوث، وتدمير النظم الإيكولوجية، وتدهور التنوع البيولوجي، وتغير المناخ والإحتباس الحراري، وظهور أشكال جديدة من اللامساواة الإجتماعية… إلخ.
في منتصف القرن العشرين، بينما كانت إعادة إعمار ألمانيا وأوروبا عامة تجري على قدم وساق، ألقى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر محاضرته الشهيرة "البناء، السكن، الفكر" (Building, Dwelling, Thinking)، والتي كان يخاطب من خلالها المهندسين والمعماريين عن مفهوم "الكينونة"، وقال إن الإنسان هو كائن فقط إلى الحد الذي يسكن فيه، وفعل "يسكن" الذي أصله فعل (باون/bauen) "يبني"، يعني أيضاً وفي نفس الوقت "يعتز"، "يحمي"، "يحافظ على"، "يعتني ب…".
وبهذا المعنى، يقول هايدغر إن حقيقة وجودنا وإقامتنا في العالم تتحدد في أننا نسكن فيه ككائنات فانية، لكن حياتنا تأخذ معناها الكامل فقط عندما ندرك أن السكن لا يمكن تحقيقه إلا من خلال رعاية الأرض والسماء والإلهيات والبشر الآخرين.
هذه الأجزاء/العناصر الأربعة، التي يسميها هايدغر "الرباعي"، تشكل في تميزها وحدة بسيطة، لكننا لا نفكر أبداً في ذلك. وفي هذا السياق، يُدِينُ هايدجر استمرار البشر في العيش في العالم دون مراعاة العناصر الثلاثة الأخرى الموجودة حولهم. لهذا، سعى الفيلسوف في حديثه إلى تنبيه المهندسين المعماريين والتقنيين إلى أهمية أن تأخذ مشاريع إعادة الإعمار في الإعتبار النظم البيئية التي ستندمج فيها.
لكن يبدو أن هذه الكلمات الحكيمة سقطت على آذان صماء، لأن ما نشهده اليوم هو كل شيء سوى ما دافع عنه هايدغر. وهكذا، وكما قال الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور في كتابه (في مواجهة چَيَا/Face A Gaïa)، "بسبب التأثيرات غير المتوقعة للتاريخ البشري، فإن ما قمنا بتجميعه تحت إسم الطبيعة يترك الخلفية ويصعد إلى مقدمة المشهد. الكل يتفاعل معنا، الهواء والمحيطات والأنهار والكتل الجليدية والمناخ والتربة وكل ما دمرنا استقراره. لقد دخلنا التاريخ الجيولوجي… تختفي الطبيعة القديمة وتفسح المجال لوجود كائن يصعب التكهن به. يبدو أن هذا الكائن، بعيداً عن كونه مستقراً ومُطَمْئِناً، يتكون من مجموعة من الحلقات الإرتدادية في اضطراب دائم".
من الواضح أن المسألة، هنا، لا تتعلق بكون الطبيعة مدفوعة برغبة مدمرة، ولا بقوة أسطورية أو ميتافيزيقية موجهة ضد الإنسان وإنجازاته، بل هي عواقب عمل الإنسان على الأرض التي تعود كالهزات الإرتدادية التي تتبع الزلزال.
ربما لسنا إلا بصدد حصاد ثمار ما زرعناه؛ لأننا مسؤولون عن العالم الذي نعيش فيه، وهذا العالم ليس مجرد منزل أو قرية أو مدينة أو بلد، ولكن الأرض كلها والبحر والسماء وكل ما فيها. نحن لا نعتني بعالمنا لأننا نعتبر أنفسنا مجرد عابري سبيل. لذا، نعتبر أنه من حقنا أن نفعل ما نشاء ما دمنا غير خالدين. نتعالى على كل الأشياء الحية والجامدة على حد سواء، وفي ذلك كبرياء مفرط (Hubris) بالمعنى الذي يستعمله نيتشه.
ويُفهم من كلام نيتشه عن (Hubris)، أو الكبرياء والغرور المفرطين، والذي أخذه عن اللغة اليونانية القديمة على أنه عتاب عن خطإٍ سندفع ثمنه عاجلاً أم آجلاً. فوجودنا أكثار على هذا العالم، كما قال الشاعر الإنجليزي ويليام ووردزورث في قصيدته المشهورة The world is too much with us late and soon لأن وجودنا يقتصر فقط على شيئين هما: "الإمتلاك والإنفاق".
ما نشهده اليوم من ظواهر طبيعية كالإحتباس الحراري، الجفاف، الفيضانات… إلخ، هو نتيجة سلوكنا في العالم. وبالفعل، لم تعد الطبيعة كما يقول برونو لاتور خلفية للنشاط البشري، فهي الآن تصعد إلى الواجهة، وتفرض شروط العيش الجديد مع البشر. لكن الفرق هو أن هذه الشروط ليست فقط غير قابلة للتفاوض، بل كلها معاكسة للبشر. لقد أصبحنا كمكترين غير مرغوب فيهم على الأرض.
فيما مضى كان بإمكاننا تجاهل كل هذه الأشياء، لأننا لا نرى الأزمات تنكشف أمام أعيننا. كان بإمكاننا أن نتصرف كأن شيئاً لم يحدث، ونستمر في العيش كالمعتاد لأن جميع الكوارث الطبيعية تحدث بعيداً، على الأقل عن أولئك الذين يعيشون في النصف الشمالي للكرة الأرضية. لكن في الأزمة الحالية والتي لا يفرق فيها فيروس (كورونا)، الذي أنتجته الطبيعة، بين الشمال والجنوب أو بين الأغنياء والفقراء، أصبح كل شيء مختلف.
فعلى امتداد الذاكرة الإنسانية، لم تحدث جائحة أوقفت 90٪ من النشاط البشري عبر ربوع المعمور. الآن أصبح هذا ممكنا لأن العالم أضحى شبكة حقيقية يرتبط فيها كل شيء، بحيث لا يمكن أن يحدث شيء في مكان ما إلا ويكون له تأثير على جميع الأنحاء الأخرى من هذه الشبكة العالمية للعلاقات الإنسانية والتجارية.
وهنا بالضبط يكمن المشكل؛ فطريقة تصور وتنزيل العولمة على أساس الإستهلاك المفرط والإستغلال غير المقيد للموارد الطبيعية، هي موضع تساؤل. إنها نتيجة الشره الذي يحول الكون برمته إلى بضاعة للإستهلاك. فجائحة (كوفيد-19) هي نتيجة لغرورنا المعاصر، وكبريائنا المفرط. إنها نتيجة اختصار وجودنا في العالم في الإمتلاك والإنفاق كما يقول الشاعر ووردزورث.
في سياق الحرب التي يخوضها الإنسان ضد الطبيعة أي ضد نفسه، يمكن استحضار ما يخلص إليه فرويد في كتابه: (Malaise dans la Culture) حيث يقول: "لقد وصل الإنسان حالياً إلى حد بعيد في الهيمنة على قوى الطبيعة. وبمساعدة هذه الأخيرة، أصبح من السهل عليهم إبادة بعضهم البعض حتى آخرهم. إنهم يعرفون ذلك. وبالتالي، فإن هذا يشكل جزءا كبيرا من قلقهم الحالي، وعدم رضاهم، وعمق الكرب الذي يصيبهم. والآن من المتوقع أن تبذل القوة الثانية من القوتين السماويتين، إيروس الخالدة، جهوداً كبيرة لتأكيد نفسها في قتالها ضد خصمها الخالد (Thanatos). ولكن من يستطيع أن يتنبأ بنجاحها أو بالنتيجة ككل؟".
خلاصة القول إن الأزمة الحالية تذكرنا بمسؤولياتنا تجاه الطبيعة واحترام كل الكائنات الأخرى، لأن هذا الفيروس كائن طبيعي؛ إنه كائن صغير جداً للغاية. ولكن قوته خارقة ومخيفة إلى حد الرعب. إنه خطر قادم من العالم غير البشري، أي العالم المجهري، وهو العالم الذي لا نأخذه في الإعتبار.
هذا العالم غير المرئي بالعين المجردة، والذي هو جزء من عالمنا، هو الآن يفرض وجوده ويهدد وجودنا كبشر. فهو يُظهِر لنا هشاشتنا وضعفنا، وعبث قوتنا، وحدود العلوم والتكنولوجيا التي نفتخر بها، ومعتقداتنا التي نغلو فيها، وثرواتنا التي نعتز بها.
بمعنى آخر، كبرياؤنا وغرورنا المفرطان في الطبيعة هو ما سيدمرنا إذا لم نغير من سلوكنا، إذا لم نعتن بعالمنا، إذا لم نغير أولوياتنا، وإذا لم ننظر من حولنا، ولم نفكر في عواقب أفعالنا.
العالم ليس ملكا لنا وحدنا، لأن هناك كائنات حية وأشكالا حيوية أخرى من نبات وحيوان وميكروبات لها أيضاً مكان فوق الأرض.
* أستاذ باحث، المغرب