عبد اللطيف وهبي يكتب: الوزيران أو الإخوة الأعداء
إن التدخل في نقاش بين وزيرين، ما كان بودي لولا تصرف هذين الوزيرين كالإخوة الأعداء، تجمعهما الحكومة والأغلبية منذ 2011 إلى يومنا هذا، و تفرقهما اللغة، يحاولان التخلص إذا لم نقل التنصل من بعضهما البعض، غير أنهما يلتقيان في آخر المطاف، رغم أنهما يحاولا أن يبدوا مختلفين، تجمعهما الحكومة وتفرقهما اللغة، تقربهما الأغلبية والاختيارات وتبعدهما الشعارات.
ولأن لكل منهما الحاجة إلى دعم معنوي لطرحاته، فكلاهما اختار أن يختفي وراء ثابت من ثوابتنا. الأول اختار الاختباء وراء الملكية الدستورية فرددها في مقاله بشكل متكرر، والثاني اختار تعزيز حججه بثابت المقدس الديني ليختم مقاله بآية قرآنية.
في حين ليس من المقبول أن نخلط نقاشاتنا في مواضيع خلافية تفرقنا، بثوابت دستورية تجمعنا، فلم يكن هناك مبرر لاستعمال هذه الثوابت.
إنني استغربت كثيرا عندما انسجم الطرفان في إشادة غريبة بقوة اقتصادنا ونجاح تجربتهما الحكومية في مجال تدبير الاقتصاد، حيث ادعى صاحبا المقالين قوة اقتصادنا كمدخل أساسي لتحمله أضرار الوباء، ثم مساهمته في نمو الاستثمار في بلادنا.
في حين أن الحقيقة هي خلاف ذلك، فضعف اقتصادنا في وضعه الحالي كان واضحا، ويتجسد مرة أخرى في استجدائه الدائم بالمديونية الخارجية للحد من وطأة عجز الميزانية، والتي قبلنا بها كمعارضة عن مضض لأننا واثقون بأن الحالة التي وصلها اقتصادنا والناتجة عن ضعف المبادرة والإبداع من طرف سياسيينا جعل اقتصاد البلد في حالة عجز دائم.
بل كان سببا مباشرا في إفلاس نموذجنا التنموي الذي كنا نبحث عن تغييره قبيل جائحة كورونا.
أما تطور حجم الاستثمارات الخارجية فكان نابعا أساسا من المشروعية السياسية والاستقرار المؤسساتي اللذين يتميز بهما النظام المغربي.
وفي مقارنة بسيطة بين العشريتين الأولى والثانية من هذا القرن، نجد أن العشرية الأولى تميزت بحركية اقتصادية قوية، لطبيعة المشاريع وحجم الاستثمارات، إلا أن استمرار سوء توزيع الدخل وهيمنة اقتصاد الريع وضعف الإدارة، حد من فعالية وتطور تلك التحولات الاقتصادية للعشرية الأولى.
ولنعد إلى مقالي الوزيرين، إذ نستغرب أنهما يوحيان بتبادل الأدوار والمواقع: رجل أعمال استفاد كثيرا من وضعه السياسي وكذلك من الوضع الاقتصادي القائم إثر انهيار أسعار المحروقات في السوق الدولية، ليخلق إمبراطورية من الأعمال والمال، يتعامل اليوم مع موضوع الاقتصاد بشكل متياسر، وهو الذي كان مساندا لحرية الأسعار وتغييب الدولة عن مجال الاقتصاد وتقوية الشركات ومناهضة السياسة الاجتماعية للحكومة، وبقدرة قادر بات مطلبه اليوم ضرورة وجود دور للدولة في الاقتصاد.
لكنه مع الأسف هو مع دعم الشركات ماليا دون تحديد ما المقصود بهذه الشركات، أهي الكبرى فقط؟ أم المتوسطة والصغرى؟
وبذلك نرى لأول مرة لبراليا يطالب برجوع الدولة للتدخل في مجال الاقتصاد، فقط من أجل خدمة نخبة أو شريحة مالية محددة.
أما الثاني الذي ظل خطابه السياسي منذ 2011 إلى اليوم يتمحور حول المجال الاجتماعي، تبنى بدوره في مقاله الأخير موقفا ليبراليا مبنيا على تشجيع الاستهلاك وحرية الحصول على الديون، وعلى حق الحكومة في البحث عن أي مصدر لتمويل الميزانية العامة، لتقديم الإمكانيات المادية للمجتمع قصد الاستهلاك.
أن بحث الطرفان عن حلول جاهزة للأزمة الحالية من خلال نظريتين اقتصاديتين "مصلحيتين" يطوعان عبرها الواقع الاقتصادي والاجتماعي لصالح تفسيراتهما، هو تغليط وتحوير لحقيقة الواقع الذي نعيشه.
هذا الواقع الذي ما هو سوى نتيجة طبيعية لسياسات حكومية اقتصادية فاشلة منذ أكثر من عشر سنوات، فشلت في خلق وحدات إنتاج لتلبية حاجيات السوق الوطني الداخلي بدل الاعتماد على الاستيراد، وهمشت كليا الاقتصاد غير المهيكل الذي أصبح اليوم يمثل عبئا اجتماعيا وأخلاقيا علينا جميعا.
إضافة إلى ذلك فالرأسمال الوطني الذي ظل يستفيد ويتمتع بأرباح متزايدة كل سنة ويتهم بالتهرب الضريبي، فإنه حينما حانت اللحظة ليرد الجميل للشعب وللدولة التي حمته طول العقدين السابقين، سار يطالب من الدولة دعما ماليا إضافيا.
أما من ظل يحمل في خطابه السياسي الشعارات الاجتماعية ويعتمد على الصدقة أكثر منه نظام اقتصادي عصري قادر على خلق فرص الشغل وخلق عوامل نجاح الاستثمار الوطني، سيجد نفسه كمدبر للحكومة في لحظة الأزمة بدون جواب لحلها، لينتظر تدخل الدولة لتنقذه.
ومن ثم بدأ يدعو المواطنين للاستهلاك، متناسيا أن الاستهلاك يحتاج إلى الدخل، وهذا الأخير منعدم، وحينما ينعدم الدخل تنهار القدرة الشرائية.
لقد كشفت لنا أزمة جائحة كورونا كيف يسعى الوزيران إلى التعامل معها وكأنها مسألة أو مرحلة استثنائية بين قوسين وليس إشكالا واقعيا قام بتعرية حقيقة الاختيارات الاقتصادية لعشر سنوات خلت كانا فيها هما معا أصحاب القرار الاقتصادي.
بل أوضحت هذه الأزمة كيف يسعى الوزيران كذلك إلى التنصل من المسؤولية الحكومية والتاريخية، وينكران أن العجز في التوازنات المالية وثقل المديونية الخارجية يعرقل إمكانية الدولة في تحمل ما ترتب عن هذا الوباء، مما جعلنا اليوم لا نؤدي سوى ثمن فشل سياسات الأمس، فشل حكومتين متعاقبتين هما الآن مسؤولتان أمام الحقيقة مهما حاولتا الهروب من مواجهتها بالاختفاء تارة وراء الملك، وتارة أخرى وراء القرآن.