“زواج القاصرات والمادة 20 من مدونة الأسرة”.. الرميد يقدم وجهة نظره
حضرات السيدات والسادة،
أتوجه بالشكر الجزيل لجمعية التواصل المهني للمحاماة على تنظيم هذه الندوة، وبالأخص الى مكتبها المتألق، وعلى رأسه الأستاذ مصطفى محمد صدقي، على كل المجهودات المبذولة على صعيد التأطير والتثقيف القانوني للجسم المهني من خلال تنزيل أنشطة وازنة ومختلفة أهلت الجمعية لتصبح جمعية مثيرة للاهتمام داخل هذا الجسم.
كما أتوجه بخالص الشكر والتقدير للسيد نقيب المحامين هيئة الدار البيضاء، على مواكبته وتتبعه لكل هاته الفعاليات بهمة عالية وحماس متميز.
حضرات السيدات والسادة،
كما في علمكم فإن هذا النشاط جاء في سياق اعلان وزارة الدولة المكلفة بحقوق الانسان، عن طلبات عروض مشاريع الجمعيات لسنة 2019 تعنى أساسا بالنقاش المجتمعي الذي يستقي مادته من القضايا الخلافية الواردة في التوصية العاشرة من خطة العمل الوطنية للديمقراطية وحقوق الانسان، من قبيل عقوبة الإعدام والمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والانضمام لاتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 وبعض القضايا المرتبطة بمدونة الأسرة ( الغاء المادة 20 وتعديل المادة 175 وتعديل المادتين 236 و 238 وتعديل المادة 35 وإعادة صياغة المادة 49).
إن هذه المواضيع هي حاليا محل تداول عميق بهدف نشر الوعي الحقوقي والترافع والاقتراح عبر اشراك كل الفاعلين المعنيين بها، وهو إقرار للأدوار التي يضطلع بها المجتمع المدني خاصة على مستوى الاقتراح والمشاركة في بلورة القرار العمومي، حيث ترجمت وزارة الدولة هذا الاهتمام عبر ابرام شراكات مع 42 جمعية رصد لها مبلغا اجماليا قيمته ثلاثة ملايين و200 ألف درهم.
وقد حظي موضوع زواج القاصر بقبول طلبات مشاريع تقدمت بها عدة جمعيات، من ضمنها جمعية التواصل المهني للمحاماة التي نشكرها على تناولها لهذا المحور الذي يدخل في صلب حقوق الانسان.
حضرات السيدات والسادة،
إن موضوع زواج القاصر يكتسي أهمية خاصة، لأنه مثار خلاف واسع بالنظر للتجاذبات التي تعتريه، وهي في حقيقتها ذات أبعاد تنسب الى الدين أو العرف أو الثقافة، كما أنها تجد لها جدورا في العوامل الاقتصادية والاجتماعية.
وبالنظر للاختلافات التي شقت المجتمع المغربي في هذا المجال، فإن مدونة الاسرة حاولت أن توازن بين الحماية الضرورية للأطفال ما دون سن 18 سنة، وكذا المعطيات المشار اليها آنفا.
وهكذا فقد نصت المادة 19 منها على أن أهلية الزواج تكتمل بتمام الفتى والفتاة المتمتعين بقواهما العقلية 18 سنة شمسية، ثم بعد ذلك أوردت على سبيل الاستثناء المادة 20 التي تنص على ما يلي: " لقاضي الأسرة المكلف بالزواج أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية المنصوص عليه المادة 19 أعلاه بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي.
مقرر الاستجابة لطلب الإذن بزواج القاصر غير قابل لأي طعن"
حضرات السيدات والسادة
جدير بالذكر أن الخلاف حول موضوع زواج القاصرات، لا يقتصر على المغرب وحده وإنما يهم دولا عربية وإسلامية وكذلك دولا أوربية، فعلى سبيل المثال، نصت مجلة الأحوال الشخصية التونسية في الفصل 5 على ما يلي " يجب أن يكون كل من الزوجين خلوا من الموانع الشرعية. وزيادة على ذلك فكل من لم يبلغ منهما ثمانية عشر سنة كاملة لا يمكنه أن يبرم عقد زواج. وإبرام عقد الزواج دون السن المقرر يتوقف على إذن خاص من المحاكم ولا يعطى الإذن المذكور إلا لأسباب خطيرة وللمصلحة الواضحة للزوجين".
بينما ورد في قانون الأسرة الجزائري في المادة 7 منه " تكتمل أهلية الرجل والمرأة في الزواج بتمام 19 سنة وللقاضي أن يرخص بالزواج قبل ذلك لمصلحة أو ضرورة متى تأكدت قدرة الطرفين على الزواج.
يكتسب الزوج القاصر أهلية التقاضي فيما يتعلق بأثار عقد الزواج من حقوق والتزامات".
أما قانون الأحوال الشخصية الأردني (المعدل سنة 2019) فقد نص في المادة 10 على ما يلي:
" أ–يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين وأن يتم كل منهما ثماني عشر سنة من عمره.
ب–على الرغم من الفقرة أ من هذه المادة يجوز للقاضي وبموافقة قاضي القضاة وبعد التحقق من توفر الرضا والاختيار أن يأذن وفي حالات خاصة بزواج من بلغ السادسة عشر سنة شمسية من عمره وفقا لتعليمات يصدرها لهذه الغاية إذا كان في زواجه ضرورة تقتضيها المصلحة ويكتسب من تزوج وفق ذلك أهلية كاملة في كل ما له علاقة بالزواج والفرقة واثارهما."
أما الدول الأوربية فنذكر على سبيل المثال فرنسا حيث منحت المادتان 145 و148 من القانون المدني الفرنسي لوكيل الجمهورية إمكانية ابرام زواج القاصر في حالة توفر أسباب جدية مع اشتراط موافقة أبوي القاصر. هذا التوجه نجده أيضا في القانون المدني البلجيكي الذي منح لمحكمة الأسرة صلاحية تزويج من هم أقل من 18 سنة في حالة وجود أسباب خطيرة كما نصت على ذلك المادة 145 منه.
حضرات السيدات والسادة
إن اختلاف التركيبة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات والدول كان سببا مباشرا في تباين التشريعات الوطنية بخصوص الحد الأدنى لسن الزواج، كما كان له أثر على تحديد التوجه العام للاتفاقيات الدولية ذا الصلة بالموضوع التي لم تجعل من السن الأدنى للزواج مبدءا مطلقا، بل إنها أجازت عدم التقيد به في حالة وجود أسباب جدية لمصلحة الطرفين المزمع زواجهما، كما أنها منحت للدول إمكانية لتحديد هذا السن في التشريعات الوطنية.
وهكذا فإن اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بالرضا بالزواج والحد الأدنى لسن الزواج وتسجيل عقود الزواج لسنة 1964 نصت مادتها 2 على أنه "تقوم الدول الأطراف في هذه الاتفاقية باتخاذ التدابير التشريعية اللازمة لتعيين حد أدنى لسن الزواج. ولا ينعقد قانونا زواج من هم دون هذه السن، ما لم تقرر السلطة المختصة الإعفاء من شرط السن لأسباب جدية، لمصلحة الطرفين المزمع زواجهما".
كما نجد في قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1965 بشأن توصية الرضا بالزواج، والحد الأدنى لسن الزواج، وتسجيل عقود الزواج إشارة في المبدأ الثاني من التوصية إلى أنه "تقوم الدول الأعضاء باتخاذ التدابير التشريعية اللازمة لتعيين حد أدنى لسن الزواج على ألا تقل عن خمسة عشر عاما، ولا يجوز التزوج قانونا لمن لم يبلغها ما لم تعفه السلطة المختصة من شرط السن لأسباب جدية، لمصلحة الطرفين المزمع زواجهما".
وجدير بالذكر أن الفقرة الثانية من المادة 16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة نصت على أنه "لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني". كما أن المادة 1 من اتفاقية حقوق الطفل نصت على أنه "يعني الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه"، ودعت الفقرة 3 من المادة 24 منها إلى "اتخاذ التدابير الفعالة والملائمة بغية إلغاء الممارسات التقليدية التي تضر بصحة الأطفال"، وهو ما ينبغي الاشتغال عليه وتوفير الشروط اللازمة للمواءمة مع هذه المقتضيات الاتفاقية، وهي تدابير لابد لتحقيقها من الأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن لتكون فعالة وقادرة على تجاوز الممارسات التقليدية المرتبطة بزواج الأطفال.
حضرات السيدات والسادة،
إن مشكل زواج القاصر ليس مشكلا خاصا بالمغرب وانما هو مشكل عالمي، ومرد ذلك أساسا إلى أن القانون ليس بإمكانه وحده أن يؤطر المجتمعات تأطيرا مطلقا، ويؤدي وحده الى ضبط السلوك الانساني، ما لم تتوفر الشروط الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الضرورية.
وفي هذا الصدد، فإنه بإمكان المشرع اليوم أن يعيد النظر في المادة 20 من مدونة الأسرة ويؤسس لتحديد السن الأدنى للزواج في 18 سنة دون إمكانية النزول عن هذا السن.
لكن يبقى السؤال المطروح، هل المجتمع سينضبط لهذا المقتضى وبالتالي ستؤول الأمور الى عدم تزويج القاصرات مطلقا إلا بعد بلوغ السن القانوني؟ أم أن الأمر سيؤول إلى انفلات يجسده اعتماد بعض الأسر على صيغة " الفاتحة" أو غيرها؟
وبالتالي ينشأ زواج دون توثيق، فتضيع معه المصلحة الفضلى للطفلة، مما يجعل مصيرها ومصير أبنائها في وضعية صعبة.
لقد سبق أن طرح مقترح قانون من إحدى الفرق البرلمانية بمجلس المستشارين ينص على تعديل المادة 20 من مدونة الأسرة، وقد تفاعلت الحكومة معه بشكل إيجابي، حيث تم التوصل بعد مناقشات مطولة الى صيغة لتعديل المادة 20 حظيت بإجماع لجنة العدل والتشريع بنفس المجلس جاء فيها ما يلي " لقاضي الأسرة المكلف بالزواج، أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية المنصوص عليه في المادة 19 أعلاه، على أن لا يقل سن المأذون له عن ست عشر سنة (16) سنة، بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي والاستعانة وجوبا بخبرة طبية وبحث اجتماعي.
وفي جميع الأحوال ينبغي على القاضي أن يراعي تقارب السن بين الطرفين المعنيين بالزواج.
مقرر الاستجابة لطلب الإذن بزواج القاصر غير قابل لأي طعن"
تجدر الإشارة الى أن هذا المقترح مازال ينتظر المصادقة من قبل مجلس النواب، بعد مرور عدة سنوات، بالنظر إلى الخلاف الذي انصب حوله داخل الأغلبية والمعارضة على السواء.
والحقيقة أنه لو تمت المصادقة على هذا المقترح، لكان حلا انتقاليا كما كان الشأن بالنسبة لمدونة الأسرة بالنسبة لمقتضيات قانون الأحوال الشخصية سابقا، والذي كان يحدد السن الأدنى للزواج للإناث في خمسة عشرة سنة وللذكور في 18 سنة المنصوص عليه في المادة 8 منه.
أما مدونة الأسرة الجديدة فقد نصت في المادة 19 على المساواة في سن الزواج بالنسبة للفتى والفتاة وذلك في سن 18 سنة وغيرها من المقتضيات. مما جعل معدلات زواج القاصر يتراجع، حيث إن الأرقام المسجلة بلغت سنة 2011 ما مجموعه 39031 عقدا بنسبة بلغت 12% من مجموع عقود الزواج التي تم تسجيلها خلال نفس السنة ليستقر سنة 2018 عند 25514 عقدا بنسبة بلغت 9.13% من مجموع العقود المسجلة خلال نفس السنة.
حضرات السيدات والسادة
إن ظاهرة زواج القاصرات، ككل الظواهر الاجتماعية، لا تعالج من خلال مقتضيات القانون وحده والا كانت سهلة المعالجة والمحاصرة، ولكن باعتبارها ظواهر اجتماعية فإنه لابد من إعمال:
أولا: المقاربة التوعوية التثقيفية بالرفع من مستوى وعي الفئات المعنية بخطورة زواج لم يحل أجله بعد، ولم تتوفر لطرفيه أو لأحد منهما الشروط الفيسيولوجية والنفسية الضرورية.
ثانيا: المقاربة التعليمية والتكوينية والتي من شأنها أن تجعل الطفلة ترفع من سقف اهتماماتها ومستوى انشغالاتها إلى غاية وصولها إلى العمر الملائم لتحمل أعباء ومسؤولية مؤسسة الزواج.
وذلك هو الحل الذي يعالج بعمق ظاهرة زواج القاصرة أو الهدر المدرسي، الذي يمكن أيضا أن يؤول عنهما من ممارسات غير محمودة.
ثالثا: المقاربة التنموية وذلك بالرفع من المستوى الاقتصادي والاجتماعي لعموم الأسر، خاصة منها الفقيرة وذات الأوضاع الهشة والتي ستأنف أي زواج مبكر لبناتها، وترى فيه حلا مناسبا للتخلص من أعباء تحمل مسؤولية الانفاق على الطفلة، والرمي بها في أحضان زواج غير آمن.
مرة أخرى، أشكر جمعية التواصل المهني للمحاماة على دعوتها وأتمنى لأشغال هذه الندوة كل التوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.