التغيير في المغرب.. لماذا انهارت بورصة المثقف؟
أي مشروع تنموي، إصلاحي، ديمقراطي وتصالحي لن يكتب له النجاح، ما لم يعتمد ويتكئ إلى رأي عام مهيكل، وواع بمصالحه وحقوقه، وأحزاب قوية ومنظمة وذات قيادات ناضجة وتمتلك رؤية واضحة ومشاريع مقنعة ونخبا فاعلة ومنتجة وتستند إلى قواعد حقيقية وليست افتراضية ونقابات وازنة ومؤثرة وذات مصداقية وتشتغل وفق استراتجية وأهداف محددة ومواطنين فاعلين وإيجابيين.
فهؤلاء هم من سيصوت لصالح المشاريع التي تهم حاضره ومستقبله، أو ضدها.
وفي السياق نفسه، تطرح جدلية المثقف والتغيير، حيث أصبح الحديث جارياً، ومتداولاً على نطاق واسع، عن استقالة المثقف، وانسحابه من المجال العمومي، وإعلانه قطيعة مع الأحداث والوقائع، من خلال انخراطه في عزلة اختيارية.
وقد أصيب مثقفون كثيرون بخيبة أمل كبيرة، وبإحباط شديد، لاعتباراتٍ كثيرة ومتداخلة، أبرزها التحولات الجذرية التي مست وظيفة المثقف وصورته في المجتمعات العربية.
وفي المجتمع المغربي نفسه، لم يعد المثقف يتمتع بالقيمة الاعتبارية نفسها، وبالرمزية التي كانت له في العقود الماضية، ولم يعد مصدر إزعاج أو استفزاز للدولة، عندما كانت الأخيرة تهاب المثقف، وتحسب له ألف حساب.
وكانت الدولة تعتبر المثقف خطراً عليها، عندما كان يرمز إلى الثورة والتغيير والتجديد، وحتى تلك المكانة التي كان يحتلها في البنيات الحزبية لم تعد قائمة.
فبدل أن ترتفع أسهم المثقف في بورصة السياسة، نجد أنها هوت إلى أدنى درجة، فيما يشبه عقوبة من السياسي تجاه المثقف.
أما الدولة، بمكوناتها ودواليبها ووظائفها، فقد خططت، منذ سنوات، لاحتواء المثقف وتدجينه وإغرائه، في مسعى حثيثٍ إلى تحييد فاعليته، وطمس إشعاعه، فتحقق لها هدف قتل المثقف، من دون أن تدرك أنها، بفعلها ذاك، ارتكبت خطأً جسيماً، كونها استأصلت من المجتمع أدوات التفكير العقلاني، والإنتاج الرمزي، وحوّلته، تبعاً لسلوكها المتوجس، إلى صحراء، لا ماء فيها ولا كلأ.
ومع ذلك، هناك مثقفون وقفوا في وجه العاصفة، واعتنقوا خيار المقاومة، على الرغم من تشوهات طالت المجتمع، وتحولات شملت كل الأنماط والسلوك والقيم.
وعلى الرغم من احتقار شرائح واسعة من المجتمع الثقافة والمثقفين والعقل، وعلى الرغم من التهميش الذي تمارسه وسائل الإعلام ، وعدم انشغال عدد من مسؤوليها بالشأن الثقافي، فإن هذا الصنف من المثقفين يحرص على المشاركة في النقاش العمومي، والالتزام بمصاحبة ما يحدث في المجتمع ومواكبته.
من هنا يأتي سؤال، لماذا يكتب الكتاب ولمن يكتبون، إذا كان مجتمعهم هجين التركيب والتكوين ويرفضهم؟ هل في وسع الفكر أن يغيّر شيئاً في الواقع؟
وهل يوجد استعداد لدى صانعي القرار للإنصات إلى ما يقترحه المفكرون والمثقفون، وما يقوله المحللون، والاهتمام بما تنشره الصحافة من أخبار وتقارير وتحقيقات.
ومِن دون مزايدة، لمّا تتأسس بعد في مجتمعاتنا ودولنا ثقافة وسلوك تقدير وتثمين ما يكتبه المفكرون والكتاب والمحللون وما يطرحونه من اقتراحات وحلول، وكأن مجهودات هؤلاء لا تعدو أن تكون هراءً، أو صيحات في وديان.
وهنا، أستحضر ما قاله المفكر المغربي، عبد الله العروي، بخصوص نقاشٍ بينه وبين القيادي اليساري الراحل، المهدي بن بركة، في الستينيات، عن الفعل السياسي، هل هو ممكن من دون أرضية إيديولوجية واضحة؟ أجاب بن بركة بالإيجاب والعروي بالنفي.
ومن هذا المنطلق، لا نتصور أن تكون هناك سياسة ناجحة وذات جدوى، ولا قرارات مؤثرة، إذا لم تستند إلى أرضية وتصورات واضحة، تؤطرها وتوجهها، وترسم لها الآفاق الآمنة والواعدة.