“نساء عدول” بإخراج سياسي قد يثير الفتنة
مهنة العدالة من المهن التي ترسخت في الثقافة المغربية، كما في معظم الدول الاسلامية أيضا، على أنها مهنة ذكورية بامتياز.
وتلك الثقافة تستند في شق كبير منها إلى آراء فقهية ترى أن المرأة غير مؤهلة لخوض غمار "الإشهاد العدلي" على اعتبار وجود نصوص من القرآن والسنة يفهم منها اشتراط الذكورة في مثل تلك المهن.
وجاء القرار الملكي بفتح مهنة العدالة في وجه النساء ليرفع المانع، الإداري على الأقل، من ولوج النساء تلك المهنة، بناء على فتوى من المجلس العلمي الأعلى.
لكن قرار فتح مهنة العدالة في وجه النساء يفترض أن تواجهه عدة اعتراضات وإكراهات، منها ما هو سياسي ومنها ما هو فقهي، ومنها ما هو ثقافة مجتمعية.
من الناحية السياسية يفترض أن تتحرك "الجبهة الدينية" من جديد لمواجهة ذلك القرار، على غرار مواجهتها لمشاريع كانت في عينها مخالفة للشرع، كان أشهرها المسيرة "المليونية" لرفض خطة إدماج المرأة في التنمية للوزير اليساري سعيد السعدي. لكن في قرار "النساء العدول" يستبعد وقوع رفض بذلك الشكل والحجم، وذلك للاعتبارات التالية:
الاول، أن لا شيء في الواقع يجمع بين أطراف يمكن أن ينتج عنه ما سمي في عهد مناهضة "خطة السعدي" بـ"الجبهة الدينية". فهذه التسمية لم تكن في الواقع سوى شعارا سياسيا لتحرك ذكي قاده حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والاصلاح، نجح في تعبئة عدد من الأطراف السياسية والدينية والدعوية وإسقاط "خطة السعدي"، وأن تلك "الجبهة" سرعان ما انتهت بمجرد إعلان الملك تأسيس لجنة لوضع مدونة الأسرة.
الثاني، أن قرار فتح مهنة العدالة في وجه النساء اتخذه الملك (أمير المومنين) بناء على فتوى من المجلس العلمي الأعلى الذي يحتكر حق الإفتاء. فهو من هذه الناحية قرار اتخذته مؤسسات لها طابعها الديني، وليست مبادرة خصم علماني أو غيره. وجل مكونات "الجبهة الدينية" الافتراضية لا يمكنها القفز أمام أمير المومنين وأمام المجلس العلمي الأعلى.
الثالث، لا يوجد أي طرف سياسي أو دعوي بإمكانه التحرك بالقوة التي تحرك بها الثنائي "الحزب والحركة" ضد خطة السعدي، لمواجهة القرار الجديد.
فحزب العدالة والتنمية يقود الحكومة، وهو والحركة التي هي حليفته الاستراتيجية ليس في مرجعيتهما الدينية ما يمكن أن يجعلهما يعتبران القرار مخالفا للدين.
وقد عبر العالم المقاصدي الدكتور أحمد الريسوني، العضو في الهيئتين، عن موقف مساند للقرار ومدافع عنه مفندا دعاوي رافضيه.
أما الأطراف التي أعلنت رفضها للمبادرة، على اعتبار مخالفتها للدين أو للمذهب المالكي، فهي أطراف "ضعيفة" من حيث الإمكان السياسي، وليس بإمكانها تعبئة باقي المكونات الافتراضية لتلك "الجبهة".
ما سبق يؤكد أن قرار فتح مهنة العدالة في وجه النساء قرار لن تواجهه عراقيل سياسية تقف وراءها المكونات الافتراضية لـ"الجبهة الدينية".
لكن ذلك لا يعني أبدا أن الطريق أمام "النساء العدول" سالكة، بل ستواجههن إكراهات كبيرة، سوف تتطلب منهن صمود أجيال منهن لتليينها، وتدور في مجملها حول الفهم المستند على تأويل فقهي لذكورة مهنة العدالة، والمنافسة غير المتكافئة مع إخوانهن من العدول الذكور.
أما ما يتعلق بمعالجة البعد الفقهي للمسألة فهذا أمر حيوي، ذلك أن التأويل الذكوري لمهنة العدالة يستند على نصوص وآراء فقهية، خاصة في المذهب المالكي، تجعل مثلا عقد الزواج الذي تبرمه المرأة عقدا باطلا !
وهذا أمر شديد الحساسية في مجتمع إسلامي شديد المحافظة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية.
وأول شيء مطلوب لمعالجة هذا الأمر هو أن يكشف المجلس العلمي الأعلى عن تفاصيل اجتهاده الذي بنى عليه فتواه التي على أساسها اتخذ القرار.
لأنه بدون الكشف عن تفاصيل ذلك الاجتهاد، وفتح نقاش واسع، خاصة في الاعلام العمومي، يؤطره، من جهة، العلماء لتصحيح المفاهيم الدينية، والمفكرون والمثقفون لتعزيز التصورات البديلة، سنكون أمام معالجة سياسية لأمر ديني لها نواقصها الكثيرة والتي قد تكون خطيرة.
أما ما يتعلق بالمنافسة غير المتكافئة بين الرجال والنساء العدول، فهناك عدة أمور لابد من أخذها بعين الاعتبار، ومن أهمها:
أولا، مهنة العدول ليست كما يتصورها البعض "مهنة جالسة"، أي مهنة مكتب يقصده الناس، بل هي مهنة ميدان تتطلب من صاحبها التنقل إلى المواطنين في أماكن إقامتهم، وفي الأوقات التي تعارفوا عليها في بعض المناسبات مثل الأعراس.
وهذا البعد سوف تجد فيه "النساء العدول" صعوبات كبيرة، خاصة حين يتطلب الأمر التنقل إلى مناطق نائية أو هامشية في المدن، وفي أوقات متأخرة من الليل.
ثانيا، المقاومة المتعلقة بالعقلية الذكورية المهيمنة في المجتمع. فصورة "المرأة العدول" لن تكون سهلة الاستيعاب والإدماج الإيجابي في الثقافة المجتمعية، خاصة في الأوساط الشعبية.
وهنا لا يمكن مقارنة "المرأة العدول" بـ"المرأة القاضي" مثلا، حيث أن الحالة الأولى يكون المواطنون هم من يختارون العدل الذي سيوثق أمورهم، في حين أنهم في الحالة الثانية يُفرض عليهم مؤسساتيا التعامل مع القاضي رجلا كان ام امرأة.
وهذا الأمر سوف يساعد النقاش العمومي الموسع والمؤطر من قبل العلماء والمفكرين والمثقفين من التخفيف من حدته.
الثالث، مهنة العدالة مهنة علاقات عامة، ومن هذه الناحية ستواجه النساء العدول تحديات كبيرة في بناء تلك العلاقات، خاصة في ظل التصورات الذكورية التي تؤطر المجتمع. وهذا النوع من التحديات سوف يعالج مع الزمن.
وإذا اكتفينا بما ذكرناه سابقا من تحديات وإكراهات، فهناك عامل قد يساعد مرحليا في إدماج النساء في مهنة العدالة بشكل أسرع. ويتعلق باستثمار النظام الثنائي الذي يقوم عليه الإشهاد العدلي حاليا، حيث يشترط فيه عدلان.
ورغم ما يوجه لهذا النظام من انتقادات تفند أسسه الفقهية، فمن شأن اعتماد ثنائي من الجنسين في الاشهاد كمقاربة نوعية مرحلية أن يسرع عملية إدماج النساء العدول في حقل الإشهاد العدلي، سواء على المستوى الميداني، أو على المستوى الثقافي، أو في باقي المستويات.
إن أهم ما ينبغي الاسراع في اعتماده لحسن إخراج وتنزيل قرار فتح مهنة العدالة في وجه النساء، كما تمت الاشارة إلى ذلك، هو فتح نقاش عمومي على أرضية اجتهاد المجلس العلمي الأعلى وفتواه، وفسح المجال للعلماء والمثقفين والمفكرين في تأطيره، والعمل على أن يكون واسعا وشاملا.
إن عدم تأطير القرار بهذا الإجراء التوعوي من شأنه أن يجعل للقرار طابعا سياسيا محضا، ومن شأن ذلك أن يقوي مصداقية القوى الرافضة له على أساس ديني في الأوساط الشعبية.
ومن دون اتساع القناعة بجواز ممارسة المرأة لمهنة العدالة، ومع وجود قوى رافضة تنشط في الأوساط الشعبية بشكل فعال، نكون قد أسسنا لفتنة في الدين حقيقية، وحكمنا على قرار فتح مهنة العدالة في وجه النساء بأن يولد ميتا أو مصابا بالتوحد في أحسن الأحوال.