“الركعة التاريخية” لأمزازي.. اتحادي سابق يتذكر الحسن الثاني
على هامش "الركوع التاريخي" للسيد وزير التربية والتعليم سعيد أمزازي، أسرد هنا هذه الحكاية الواقعية من عمق الماضي. وأبطال هذه الحكاية لم يكونوا وزراء ولا من علية القوم ولا من كبار الأثرياء.
كانوا فقط 19 مناضلا من حزب "القوات الشعبية". أي حين كنا نمارس ما كان يفعله قادتنا ويرضي كرامتنا، لا سيما المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يلتقي كثيرا بالملك الراحل الحسن الثاني.
أذكر في مثل هذا الشهر، قبل 41 سنة، وقد كنت مستشارا جماعيا بالمجلس البلدي لمدينة فاس، الذي ترأسه الدكتور بنسالم الكوهن عن حزب الاستقلال. وكنا 19 مستشارا اتحاديا يشكلون المعارضة.
ذات ليلة من شهر يناير 1977، توصلنا برسالة مستعجلة تخبرنا أن المرحوم الحسن الثاني سيستقبل المجلس البلدي لفاس صبيحة اليوم الموالي.
وكانت الرسالة مذيلة بهذه العبارة:
"ضرورة الحضور باللباس التقليدي الأبيض، أو اللباس العصري القاتم".
اتفقنا نحن الاتحاديين على اللقاء في الغد صباحا بمنزل المرحوم الدكتور الشامي. ولما التقينا كان موضوع الحديث بيننا حول اللباس وتقبيل يد الملك. وقررنا بشكل جماعي ارتداء اللباس العصري وعدم تقبيل يد الملك، والاكتفاء بتقبيل كتفه الأيمن.
وصل أعضاء المجلس البلدي إلى القصر الملكي بفاس وقد كنا 39 عضوا، ومن بينهم مولاي أحمد العلوي وزير الدولة، وامحمد الدويري وعبد الحق التازي عضوا اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال.
كان الأعضاء الاستقلاليون، على شاكلة واحدة باللباس التقليدي الأبيض: (جلباب وسلهام وشاشية حمراء وبلغة صفراء). وكان الاتحاديون بلباس عصري من كل الألوان: (كثير منا لم يكن يملك كسوة سوداء).
وكان يتقدمنا عامل الاقليم السيد التادلي الذي سيصبح كاتبا عاما لوزارة الأوقاف، بعد تنصيب حكومة عصمان على إثر الانتخابات التشريعية ليونيو 1977. والتي سيصبح فيها السيدان الدويري والتازي وزيرين.
وبينما نحن ننتظر في حديقة القصر، خرج علينا الحاجب الملكي، مولاي حفيظ، وهو يتفحصنا بعينين غاضبتين، ثم أطلق صوته بحشرجة عنيفة:
"سيدنا عيان ما غاديش يستقبلكوم اليوم، رجعو غدا في هذا الوقت".
ثم نادى الحاجب الملكي رئيس المجلس البلدي بصوت مرتفع وبلهجة آمرة:
"أسي الرئيس، ما تنساش، كلشي غذا باللباس التقليدي".
والتفت الحاجب الملكي إلى عامل الاقليم وهمس له بكلام لم نسمعه ولكن أدركنا نحن الاتحاديين مضمونه لما داعبنا بكلام لا يخلو من تنبيه. وأخبرنا أنه سيأمر رئيس المجلس البلدي باقتناء لباس تقليدي أبيض لكل الأعضاء على نفقة ميزانية المجلس البلدي.
رغم الشعور بالإحراج، قبلنا بارتداء الزي التقليدي الأبيض في صبيحة اليوم الموالي. وهذا الزي هو الذي سأهديه لعمدة القيروان بتونس في مناسبة لاحقة.
أصبحت قاعة الاجتماعات الكبرى بالبلدية عبارة عن مستودع للملابس. وتم تنميطنا على نمط واحد. وانتقلنا إلى القصر الملكي مثل سرب من الطيور التي نسميها "طِـيـرَا ابْـقَـرْ".
في حدائق القصر، كان مولاي حفيظ ومولاي أحمد العلوي في استقبالنا حيث خاطبنا هذا الأخير بنكتته "البايخة ":
"شوفو الديمقراطية الحسنية كيف وحدتكم كلكم في لون أبيض واحد. وهذا جزء من ميكانيزمات التدجين التي ستستفحل فيما بعد.
قالها ولم يكن يعلم أن اللباس الأبيض الموحد لم يغير من قرارنا المتعلق بعدم تقبيل اليد، الذي أكدناه مرة أخرى قبل التوجه للقصر الملكي.
كانت مراسيم الاستقبال تقتضي أن يقدم رئيس المجلس البلدي كلمة باسم المجلس. وبعدها يتم النداء على السادة المستشارين للسلام على الملك ثم خطاب الملك لأعضاء المجلس ليختتم الاستقبال بحفل شاي فاخر.
تفتق ذكاء رئيس المجلس، أو أوحي له بذلك، أنه أثناء النداء على السادة المستشارين لم يحترم الترتيب التسلسلي للدوائر الانتخابية، بل عمد إلى النداء على الاستقلاليين في البداية، ويختم بالاتحاديين.
فبدأ الاستقلاليون يتقدمون الواحد بعد الآخر، بكيفية واحدة تبدأ بانحناء الركوع الخفيف، وتنتهي بتقبيل يد الملك من الجهتين، والتي كانت ممدودة أسفل منتصف جسده بقليل.
وكنا نستشعر خطورة الخروج على هذا السياق، وعدم تكرار من سبقونا في الانحناء وتقبيل اليد.
لكن لما بدأ النداء على المستشارين الاتحاديين، تفاجأنا بالملك يرفع يده إلى أكتافنا، ويعفينا من عملية الانحناء والتقبيل والاكتفاء بتقبيل كتفه.
استغربنا جميعا سلوك الملك معنا، وتساءلنا وذهبنا بعيدا في إيجاد الأجوبة، ولكننا اكتفينا بأن الملك ربما احترم موقفنا وأخرج الاستقبال من دائرة الإحراج.
لكن موقفنا من تقبيل اليد سيعرف تغيرا في السنوات التي ستأتي وفي استقبالات أخرى بفاس ومراكش لا سيما بعد انتخابات 1983 والتي سيصبح الاتحاد الاشتراكي أغلبية ساحقة بمدينة فاس.
وهذا موضوع آخر، سأكتب عنه لاحقا، ويدخل في سياقات أخرى من محاولات التدجين والتنميط التي سيصبح الاتحاد ضحية لها.