مغربية في الهند
وهنا الأشياء ترى فيك كل شيء للمرة الأولى.
هنا تلمس منطقا يمكن أن يطعن في أي لحظة ذلك المنطق الذي أتيت به والذي يصبح بدوره لا منطقيا.
ما أن لمست قدماي مطار "كوتشين" الواقع في ولاية "كيرلا" حتى أصبحت الحياة في عيني تماما كالحياة في عيني طفل.
كل شيء مدهش هنا.
الوجوه، النظرات، الألوان….
. توجهت نحو موظف الجوازات الذي لم يستطع معرفة أي جواز أحمل، فطلب المساعدة من زميله.
تحقق الموظفان من التأشيرة، فختم الموظف الثاني الجوار بينما الموظف الاول كان يردد: "موروكو.. موروكو…".
بدا لي أن هذا الموظف الهندي أمسك بيده الجواز المغربي لأول مرة.
وفعلا، فهذه المنطقة معروفة بالسياحة الداخلية اكثر مما هي معروفة بالسياحة الخارجية.
ركبت طاكسي المطار بعد أن كشفت لسائقه عنوان الفندق باللغة الانجليزية واللغة الهندية.
السائق اعتقد في البداية أنني من شمال الهند. فقلت له: "انا من شمال افريقيا".
ضحك لأنه اعتقد أنني أمزح.
كان هذا السائق يتحدث القليل من الانجليزية والكثير من لغة الروح.
سألته: "كم عدد الركاب الأفارقة الذين ركبوا سيارتك؟"
قال لي: لا أحد.
أعدت السؤال بصيغة مختلفة: كم عدد الركاب العرب الذين استقلوا سيارتك؟
وكان جوابه مرة أخرى: لا أحد.
ضحكت وقلت له والآن دعني أسألك هذا السؤال: منذ متى وانت تسوق الطاكسي؟
ضحك الرجل ورد بالقول: انا اسوق الطاكسي منذ عشرين سنة.
حينها أجزمت بأنني أول إنسان افريقي عربي وأول امراة وطئت قدماها "سطح" هذا الطاكسي في التاريخ المهني لهذا السائق.
تعالت ضحكاته واستمر في حديث متقطع ولغة جسد مندهشة من وجود راكب غريب يستقل سيارته لأول مرة.
إنه حدث نادر قد يحدث مرة في العمر وقد لا يحدث.
أما أنا فكنت مسحورة بمناظر الغابات الاستوائية التي يخترقها الطاكسي.
أشجار ومناظر لا أراها الا في قناة "ناسيونال جيوغرافي".
أطفال وأناس كبار يمشون على حواف الطريق السيار ببطء.
المشي البطيء هنا له معنى مختلف. إذ ليس له
علاقة بالبطء الناجم عن الكسل والخمول.
البطء هنا له معنى التناغم مع الطبيعة.
هنا كل شيء متناغم ومنسجم مع الطبيعة.
هنا مفهوم الحياة يتساوى مع مفهوم الموت.
وربما هذا هو سر التناغم.
لست أدري..
وانا في منتهى التأمل أحاول تفسير هذا التناغم الواقع بين البشر والطبيعة فإذا بالسيارة تتوقف بطريقة مفاجئة بل مخيفة وسط الطريق السيار.
ذلك أن السائق ضغط بقوة على فرامل السيارة كما لو أنه أراد أن يوقظني من هذا الحلم كي يقول لي: ليس كل شيء في الهند بطيء.
وأعترف أني لم أشعر بالخوف وأنا أفاجأ بالسائق يضغط بقوة على فرامل السيارة لأن هذه الواقعة تشبه واقع حياة تركته خلفي هناك ببلدي المغرب.
لكن توقف السيارة وسط الطريق بهذه الطريقة المفاجئة لم يكن سببه هو ما أعرفه كمغربية من أسباب قد يضطر معها أي سائق إلى التوقف وسط الطريق.
ولأن للفضول سلطة على أي مغربي، فقد ألقيت بنظري على الزجاجة الأمامية للسيارة لأعرف سبب هذا التوقف المفاجئ للسيارة، فإذا بي أرى ما لم يكن حتى في الخيال.
لقد رأيت بأم عيني ثعبانا كبيرا يعبر الطريق من أمام السيارة.
وهذا هو السبب الذي جعل سائق الطاكسي يتوقف بهذه الطريقة المفاجئة خوفا على حياة الثعبان.
نعم أعترف أيضا أني أصبت يرعب حقيقي، بل كادت أن تزهق روحي تحت هستيريا من الصراخ. إذ ليس من رأى الثعبان يعبر الطريق كمن سمع.
اما سائق الطاكسي فقد أصيب بهستيريا من الضحك وهو يعبر عن استغرابه من ردة فعلي من رؤية ثعبان.
وفعلا، فقد انتظر السائق إلى أن عبر الثعبان الطريق ببطء، فيما أنا واصلت صراخي ولم أستعد هدوئي إلا بعد أن تحركت السيارة من مكانها.
وبالطبع، فقد عدت إلى نفسي بعد هذا "الحادث" المزلزل للروح لأتأمل ليس فقط في هذا التناغم الحاصل بين ناس الهند وطبيعتها، ولكن أيضا في تناغم هذا الثعبان مع ناس الهند وطبيعة الهند.
ولأني أتحدر من أجمل بلد في العالم، فقد تذكرت كل عبارات السخرية والاستهزاء من الهنود عندما كنا نصفهم ب"عبدة الحيوانات".
لقد كنا نفعل ذلك عن جهل، بل كنا نفعل ذلك لأن الإنسان عدو ما يجهل.
والحقيقة أن الهنود ليسوا "عبدة حيوانات". إنهم أناس يحترمون الحيوانات ويقدسونها لا غير.
وظني أن هذا التقديس للحيوانات نابع من كون هذه المخلوقات لها أرواح.
والروح في نظر الهنود منحة من الخالق.
ولأن الأمر كذلك، فالخالق هو من له الحق في أخذ ما منح.
وبينما كانت أفكاري تتزاحم في هذه اللحظة التي كنت أقاوم فيها هذا التضارب بين معتقداتي وبين ما أحسه وما أراه، فوجئت بالسائق الهندي يخبرني أنني وصلت إلى الوجهة المطلوبة.
فعل ذلك وهو يشير بيده إلى الفندق الذي سأنزل به، فيما آثار الاستغراب والضحك، من ردة فعلي "الرعناء" على رؤية الثعبان، لازالت بادية على وجهه.
وأنا أترجل من السيارة، شكرت السائق وقلت له في نفسي: أنا جئت من وطن لا نقف فيه احتراما لبشر أما أنت فقد وقفت احتراما لثعبان..
ثم انصرفت إلى الفندق أو بالأحرى إلى نفسي الموزعة في كل اتجاه.