أوريد يكتب: إلى أي حد يذهب الزلزال المغربي؟
وهي مبادئ نبيلة «لا ينتطح فيها عنزان» كما يقال، ولكنها ليست في منأى من السؤال.
لنتفق بادئ الأمر على أن المصطلح غير موفق، لأنه لا يميز بين الزلزال والزلزلة، وقد تم تبنيه من قِبل السياسيين، مما نحته الصحافيون.
وقد بدأ المصطلح أول ما بدأ في أعقاب إجراءات تأديبية صدرت صيف 2010، بشأن موظفين من الحسيمة، تم توقيفهم وعرضُهم على القضاء، بموجب بلاغ من الديوان الملكي.
وسارعت الصحافة إثرها إلى نعت ما حصل بزلزال الحسيمة.
وكانت الحسيمة قد تعرضت فعلا لزلزال طبيعي في فبراير 2004. كان ذلك هو الزلزال الأول.
لم يُحَطْ الأظناء بقرينة البراءة وقد صدر بلاغ يستبق نتائج البحث، ولم يتم الإسفار عن نتائج المتابعات والمحاكمات، بل مات شخص خلال الاعتقال الاحتياطي، وصادف ذلك الحراك الذي أعقب ما سمي بالربيع العربي وتم إغلاق الملف.
المصطلحات ليست بريئة، هل «الزلزال» إجراءات تعزيرية، للعبرة والمثال وامتصاص الغضب.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا حاجة لكي يخضع لاعتبارات موضوعية، ولكن لا ضمان أن يهدم البيت ومن فيه كذلك.
وإذا كان ما يُرام هو الإصلاح وإعادة ترتيب البيت، فمن الضروري نحت مصطلح جديد، ومواكبة الإجراءات بمعايير موضوعية وموضوعة سلفا، لا مكان فيها للثأر ولا العقاب (والجزاء ليس هو العقاب) ولكن إحقاقا للحق وفق قواعد عامة وغير شخصية، تضمن الصالح العام ولا تفتئت على حقوق الأفراد، أيا كانوا، من داخل الدولة أو خارجها.
هل خضعت إجراءات الزلزال لاعتبارات موضوعية؟ الإعفاءات التي طالت مسؤولين كبارا، ومنهم تكنوقراط يمكن أن ننعتهم بجزء من المنظومة، بل من أطفالها المدللين جمعوا قطاعات تقنية وترفيهية، هل هو تقصير صادر عن أشخاص أم منظومة؟
نقلت الصحافة قبل سنوات كيف أن قياديا حزبيا سبّ في الهاتف مسؤولا في الإدارة الترابية، لأنه لم ينحز لمرشح من حزب مقرب من الإدارة.
وحدث أن رُقيّ المسؤول موضع السباب بعدها، وفي منصب حساس، جبرا للخاطر وفي سياق جديد. هل كان يمكنه والحالة هذه أن يتصرف وفق الاختصاصات التي يفرضها منصبه؟ أم أن يتصرف في الحد الأدنى الذي لا يثير حزازة، بناء على تعليمات واضحة وقد سبق له أن لُدغ، والمؤمن لا يُلدغ من جُحْر مرتين.
فكيف بمن لا يؤمن إلا بمساره، وفي الوقت ذاته بث الإعلام الرسمي، أشغال جمعية نادت بتبني الدارجة المغربية، وشارك فيها فنيون، وحضرها مستشار الملك، السيد فؤاد الهمة خريف 2013.
وحدث أن عُين شخصان ممن حضرا ذلك اللقاء، رشيد بلمختار مسؤولا عن قطاع التعليم، ومحمد حصاد وزيرا للداخلية، وحدث أنهما ممن حصدهما «الزلزال».
فهل يتحملان مسؤولية فشلهما لوحدهما؟
ومن المؤكد، مثلما رد رئيس المجلس الأعلى للحسابات إدريس جطو، عقب صدور مذكرات المؤرخ المغربي عبد الله العروي، ونعته بالشخص التافه ذي التحليلات السطحية، أن رد في الصحافة، أنه لم يُعين نفسه سنة 2002 في منصب الوزير الأول، وقد يتاح لمن أُعفوا أن يقولوا الشيء ذاته، مما قاله جطو.
شملت الإعفاءات سلسلة من عناصر الإدارة الترابية، بسبب التأخر في إنجاز مشاريع.
ومعلوم أن في كل الأنظمة الإدارية تدرجا في التقصير، من الهفوة، والخطأ فالخطأ الجسيم، مع ضمان للدفاع.
فهل يدخل التأخر في دائرة الخطأ الجسيم، الذي يستوجب الإعفاء؟
وهل يتحمل مسؤول مسؤولية غيره، من إطار غير إطاره، ذلك أن شؤون المدينة هي من اختصاص عمداء المدن، فكيف يتحمل مسؤول ترابي وزر المنتخب؟
وكيف تُربط المسؤولية هنا بالمحاسبة، والقاعدة، أنْ «لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى».
والواقع أن الإدارة الترابية بالمغرب تعيش على إيقاعين، إيقاع قديم طبع فلسفة وزارة الداخلية، وهو الالتزام بالنتيجة، والجملة المأثورة للحاكم الفرنسي الأول ليوطي، «الأمور المالية تتبع».
وإيقاع جديد رسمه تكنوقراطيون من مهندسي القناطر الذين أوُكل لهم تدبير شؤون المواطنين، وهم لم يزاولوها قط، ويلتزمون من أجل ذلك بالإجراءات والمساطر، أو ما يسمى process عوض النتيجة.
واللافت أن تلك المقاربة فشلت، وقد كانت جميلة على الورق، في ملفين حساسين، التعليم والتنمية البشرية، ولن يكون من معنى لما يسمى بالزلزال، إن لم يخضع هذان القطاعان لواجب الجرد.
وليس مما يسيء للعدل كالكيل بمكيالين.
تذبذبُ مرجعية الإدارة الترابية بين الالتزام بالنتيجة والتمسك بالمساطر، هو ما يجعل كثيرا من مسؤولي الإدارة الترابية في حيص بيص، إن غلّبوا الالتزام بالنتيجة لم يسملوا من المحاسبة، بدعوى عدم احترام المساطر، وإن احترموا المساطر لم يسلموا من تأخر الإنجاز
فهل يُعزى التقصير والحالة هذه إلى خطأ المسؤولين أم للقواعد الناظمة؟
كان لافتا الخطاب الذي بثه وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت عن طريق البث الداخلي للوزارة، من أجل امتصاص الاستياء الذي عمّ ما كان يُنعت بأم الوزارات، كي تستعيد أطرها الثقة، بل كان خطابه، المكتوب سلفا، عبارة عن نقد ذاتي ضمني، ليس من قِبل الوزير، ولا الوزارة وإنما من قِبل من أراد ان يجعلها إطار تقنيا صرفا.
وكان من نتائج تحجيم دورها، أن فقدت الوزارة التأثير في النخب السياسية، مما استفاد منه حزب العدالة والتنمية، وفقدت المبادرة، بسبب مزاحمة ما يسميه البعض بالبنية الموازية.
وهذا الاختلال في الحكامة هو ما أفضى إلى الأزمة في منطقة الريف. فهل يجوز والحالة هذه التوقف وسط النهر؟
واللافت كذلك، هو أن المحاسبة أو الضبط شمل قطاعا كان محجوبا عن الأنظار، هو وزارة الأوقاف.. وقد سبق للصحافة أن نقلت إعطاء وزارة الأوقاف لشخص نافذ قطعة أرضية بتارودانت بثمن بخس، ولم تُحترم فيه مساطر المزايدة العلنية، ولم يزد وزير الأوقاف أن رد في البرلمان، أنه تحمل التجني الذي تعرض له في سبيل الله والوطن والملك، وهو لم يتعرض لتجن، بل لقرار اتخذته وزارته، ولا علاقة بالحملة الصحافية لشخصه.
وحينما سقطت مئذنة مسجد بمكناس في فبراير 2010 وأودت بحيوات أكثر من أربعين شخصا، لم يزد الوزير في برنامج تلفزيوني أن طمأن المواطنين من أنه قضاء الله ولا راد لقضاء الله. والحال أن الدولة الحديثة تميز ما لله وما لقيصر.
إن ما يُخشى منه أن يتحول ما يسمى بزلزال إلى سيف دامقليس مُسلّط على رؤوس المسؤولين، يقضي على روح المبادرة والمسؤولية. وفلسفة القانون الروماني تقوم على حسن النية، وقواعد التدبير الحديثة تنبني على الثقة. لا يعفي ذلك أيّا من الخطأ بل من الزيغ والشطط، ولكن ضمن قواعد موضوعية. ودَرْءُ المفسدة مُقدّم على جلب المنفعة، كما تقول القاعدة الشرعية، وأي منفعة إذا زلزلزت الدولة زلزالها وأخرجت الإدارة أثقالها!
عن “القدس العربي”