الخبر من زاوية أخرى

من يحب الدولة أكثر؟

حسن طارقحسن طارق


بين زيارة صباحية لقبر الجنرال وخطاب في المساء أمام المجلس الدستوري:هكذا قضى "ماكرون" يوم الخميس قبل الماضي في تذكر الجمهورية الفرنسية الخامسة.لذلك بدا الرئيس الشاب كأي هارب من قساوة إستطلاعات الرأي إلى رحابة التاريخ .الواقع انه إحتمى بالظلال الوارفة لقامة مديدة في الوجدان الفرنسي في الوقت المناسب تماما: فضائح الحارس الشخصي تلاحق رئيسا إلتزم بمثالية السلوك ،ومتتالية عاصفة من الاستقالات الوازنة لأعضاء الفريق الحكومي .

وكأي يوم رئاسي مليء بالكثافة، كان لابد من "جملة صغيرة" لتشغيل الماكينة الجبارة للإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.لذلك ترك الإعلام جانبا خطاب المساء الطويل و العميق حول فلسفة ومرجعيات الإصلاح الدستوري ليهتم أكثر بالجملة المسكوكة التي تسللت بذكاء على هامش زيارة الرئيس لبلدة "كولومبي ليدوزيغليز" حيث يرقد الجنرال ديغول جوار الأبدية ،عندما قذف "ماكرون" بعبارته السريعة أمام حشد من رجال الصحافة قائلا" الذين يريدون جمهورية سادسة لايحبون الدولة".

هكذا أراد الرئيس الفرنسي تمضية الرابع من اكتوبر 2018،الذي يطابق الذكرى الستون للمصادقة على دستور 1958، مستحضرا الجمهورية الخامسة، مقتفيا خطوات مؤسسها في أزقة بلدته الصغيرة حيث تقاسم جزءا من حياته الحميمة مع بسطائها ، مادحا واحدا من إنجازاته الكبرى: جمهورية لاتشبه ديمقراطيات عصرها المفتونة بالنظام الانجليزي ،ولاتصل الى حدود محاكاة ما صاغه أباء الدستور الامريكي في الشطر الأخر من الغرب ،شيء مختلف كل انماط الحكم الديمقراطي التي كان يعرفها العالم نهاية الخمسينيات ، صيغة خاصة في هيكلة السلط و ترتيب المؤسسات مبنية على فكرة المسؤولية السياسة للحكومة ،لكنها تسمح بإنبثاق مايشبه رئيسا متوجا بصلاحيات كبرى.

جمهورية خامسة ،أرادت تجاوز النزوع الموغل في البرلمانية لدى الجمهوريات التي سبقتها ، وتدارك هشاشة السلطة التنفيذية امام تضخم برلماني في الصلاحيات ،عبر بعث مؤسسة الرئاسة كمؤسسة مركزية في هندسة السلط وعلاقاتها .

أخدت الجمهورية الخامسة من النظام البرلماني فكرة المسؤولية السياسية للحكومة أمام مجلس النواب المنتخب ،فاستحقت إسم النظام شبه البرلماني . و اخذت من النظام الرئاسي فكرة الرئيس المنتخب واسع السلط ،فاستحقت إسم النظام شبه الرئاسي . ولأنها جمعت بين رئيس بصلاحيات  حقيقية ووزير اول يقتسم معه السلطة التنفيذية ،فقد كانت بالفعل نظاما مختلطا .

الواقع ان "ديغول" قد بصم الهندسة الدستورية للجمهورية الخامسة عندما قاد فرنسا الى نموذج مؤسسي بنفحة رئاسية مزيدة .يصح هذا القول تماما كما يصح القول بان الفرنسيين إختاروا دستور 1958 وهم يفكرون في رئيس من الحجم التاريخي للجنرال .

عندما نبحث عن تعريف وظيفي للديغولية ،قد نغامر بتقديمها كتركيب لفكرتين مركزتين : فكرة حول الدولة و فكرة حول فرنسا نفسها . تغازل الأولى إستيهامات وطموحات فرنسية عريقة حول حضور دولي وازن ومستقل ،فيما تعبر الثانية عن حاجة عميقة في الوجدان الفرنسي للتماهي مع تجسيد قوي للسلطة .

كل هذا لم يجعل من نظام الجمهورية الخامسة، نظاما نموذجيا .لقد كان في حاجة مستمرة للتصويبات الضرورية ،وكما كانت له مزاياه أبرزت التجربة عيوبه الكثيرة : غموض في توزيع الصلاحيات داخل سلطة رئاسية برأسين ، نزوعات رئاسوية تعود مع رؤساء بحضور شخصي و سياسي قوي (ميتران ، ساركوزي)،إختناق مؤسساتي في حالات التعايش حيث يضطر الرئيس للتساكن مع وزيرأول ليس سوى خصمه اللذوذ ومعارضه الأول ..

عدا ذلك كان عليه كذلك ان يحتمل كل أمراض الديمقراطيات المعاصرة :فقدان الثقة وإتساع الهوة بين المواطن والنخبة و تصاعد الشعبويات .

لذلك كان للجمهورية الخامسة نقاذها داخل الأكاديميين و السياسيين ،وخاصة اليساريين منهم اللذين كثيرا ما دافعوا عن جمهورية سادسة بنمط برلماني واضح .

من هؤلاء "ميلنشون"،الذي قاد حملة انتخابية رئاسية قوية ،كان جزءا من أقوى وعودها : إنتخاب مجلس تأسيس يتكفل بدفن الجمهورية الخامسة والاعلان عن نظام برلماني حديث .

لذلك سارع زعيم "فرنسا الأبية" الى التغريد اللاذع ،ساعات بعد إطلاق ماكرون لجملته الصغيرة ،واصفا إياه بأنه يخلط بين الدولة والشركات الناشئة ، ومعرفا الدولة الحديثة بأنها التعبير عن الإرادة العامة للشعب ،قبل ان يضيف أن الذين لايحبون الدولة هم الليبراليون الذين يهدمونها.

قد يحب ماكرون دولة أكثر حضورا في السياسة ،وأقل "تورطا" في الاقتصاد ،وأكثر إنخراطا في المشروع الأوربي. لكن يبدو ان ميلنشون يحب دولة "أكثر" في الرعاية الإجتماعية و أقل في السياسة ،دولة "أكثر" سيادية و"أقل "أوربية .أو قد  يحب الأول الجمهورية محمولة على أكتاف الدولة ،فيما يحب الثاني الجمهورية متخففة من أثقالها الرئاسية .وربما ان كلاهما يحبان الدولة ،لكنهما يختلفان في طريقة ممارسة هذا الحب.

على العموم جدل الاصلاح الدستوري ،هو إستمرار لنقاش فرنسي "مزمن"،كنا قد وقفنا في وقت سابق عن بعض جوانبه بمناسبة الانتخابات الرئاسية الأخيرة عندما تحدثنا عن" الجمهورية السادسة في فرنسا". فهل ينجح "ماكرون" في إصلاح جمهورية "ديغول"؟هل يفعل ذلك ويقنع الفرنسيين بطريقته في حب الدولة ؟