الخبر من زاوية أخرى

خطيبات بلا منابر

حسن طارقحسن طارق


غالبا هن سيدات غادرن مرحلة الشباب. أو هكذا يبدون على الأقل من خلال سحناتهن المتعبة و طريقة لباسهن التي لا تخرج عن نمط المغربية المتوسطة : جلابة أو لباس شبه منزلي و منديل بسيط فوق الرأس لا يعني أكثر من مجرد اختيار في اللباس .

الملامح مغربية أليفة مما نصادف قسماته يوميا داخل الأسر وفي الأسواق والشوارع والأحياء ،و ما تعودنا عليه داخل الأوساط الشعبية في وجوه الأقارب :أمهات و أخوات وعمات

اللسان مغربي دارج ، بنبرات و تنويعات محلية لا يخفيها النهل الملحوظ من القاموس المشترك الذي ولده الاندماج الوطني المتزايد و غذته وسائل الإعلام و الأعمال الفنية و يسىرته سهولة التواصل الاجتماعي .

رواد الشبكات الرقمية تعودوا، خلال فترات متقاربة على تقاسم و مشاركة فيديوهات وجيزة تتضمن واحدة من تلك النساء وهي تسترسل متحدثة في موضوع تضعه الأحداث في قلب الاهتمامات العامة بنبرة نقدية حادة، وبوجه مكشوف، و بقدر واف من الجرأة و الإقدام

تتوزع المواضيع بين قضايا الإحتجاج الاجتماعي و الإنشغالات اليومية ذات الصلة بارتفاع الأسعار وشروط الولوج للبنيات التحتية و طبيعة الاستفادة من الخدمات الصحية و مرافق الادارة العمومية و نوعية السكن و صعوبات تشغيل الأبناء ،و تصل الى إبداء الرأي في ما يستأثر باهتمامات النقاش العمومي ،معبرة في الحقيقة عن مواقف سياسة مباشرة عارية مما تحفل به عادة لغة السياسيين من مخاتلات ،وكلمات مسكوكة فقدت المعنى، وعبارات منهكة من شطط الاستعمال.

هن نساء من عامة الشعب ،بلا إنتماء سياسي ولا نقابي ،لذلك لا يشبهن كثيرا نسوانيات الطبقة الوسطى ولا مناضلات حقوق الإنسان في المدن الكبرى . ولايبدو أنهن قد نلن حظهن من التعليم خارج ما لقنتهن حيوات شاقة ،ولا قد إستئنسن بلغة المقرات الحزبية المحشوة بالمفاهيم الثقيلة و العبارات المكررة والجمل المتشابهة ،فغضبهن فطري وخطابهن قريب من السليقة وعباراتهن تحمل توقيعا شخصيا أصيلا.

هن لم يحملن معهن بالتأكيد، جملا قصيرة معدة بعناية خبراء تواصل، ولم يفكرن طويلا في أبعاد و خلفيات الرسالة المصاغة بكثير من الدقة والحرص المرضي للسياسيين. إنهن على الأرجح فوجئن بميكروفون عابر لاحد المواقع المتكاثرة أو بمجرد هاتف نقال على أهبة تسجيل غضب عميق يبحث عن كلماته الحارة. الباقي يصنعه الفايسبوك و الواتساب و الصحافة الإلكترونية ،عندما يحول الارتجالية السريعة الى مادة للتقاسم بين عشرات الآلاف من المواطنين المتوفرين على هاتف ذكي

تواتر فيديوهات هؤلاء النسوة ،يقترب من جعل الأمر ظاهرة حقيقية تستحق الانتباه والتأمل: نساء ،أمهات و ربات بيوت في الغالب ،في قلب الفضاء العام :داخل احتجاجات بالشارع أو على هامش مسيرات أو وقفات ،لا يحملن أي إسم أو إشارة الى انتماء أو صفة ما . إنهن فقط ما يقلن و ما يعبرن عنه من غضب و حسرة ،ولذلك فهن لسن في حاجة الى عنوان و هوية و إسم خاص للتوقيع على شهاداتهن التلقائية. هن لا يمثلن أحدا غير ذواتهن القلقة.

في نبرة الكلام الكثير من الحرقة و القليل من البلاغة. الاسترسال الواضح يشبه سلسلة طلقات سريعة لسلاح ناري متأهب. في المضمون شذرات من قصة حياة و تفاصيل عن المعاناة اليومية للأبناء و الزوج والأسرة والحي والمدينة

الفيديوهات المتفرقة لهؤلاء النسوة المفوهات القادمات من الجغرافية العميقة للمغرب المنسي ، تتحول الى نداء مباشر لكبار المسؤولين من مختلف المستويات ،بلا أدنى شعور بالخوف من مخاطبة السلطات في أعلى تراتبياتها  أو من إجتراح لغة الحقيقة التي تزعج الإطمئنان  المعمم للخطاب الرسمي .

كثيرون قد ينظرون الى ظاهرة هؤلاء الخطيبات بلا منابر  ،كدليل على نوع من وعي المجتمع بذاته ،وعلى حرية في القول لايبدو أنها ستتراجع الى الوراء. وهي بالتأكيد واحدة من علامات الزمن الاحتجاجي حيث النساء فاعلات في دعم ومناصرة و تعبئة حراك اجتماعي لا يخفي طابعه الأنثوي

في العمق ،تحيل الظاهرة كذلك الى إعادة تسييس جزئي يطال المجتمع في أقصى مساحاته محافظة . في الحديث البسيط لهؤلاء النسوة عن مشاكلهن في التعليم والتشغيل والصحة ليس مجرد شجاعة رأي ،بل كذلك نفحة عميقة من السياسة ،ذلك أن الجهر بمخاطبة المسؤولين و التنديد بمظاهر الاختلال والفساد ،يعني أنهن لا يعتبرن أن فقر أسرهن و عطالة أبنائهن مجرد حظ عاثر أو قدر محتوم ،بل هو نتيجة لاختيارات في السياسة والاقتصاد ،وهو ما يعني إدراكا حادا للعلاقة بين الوضع الخاص للأسرة وللفرد وبين الوضع العام للمجتمع والدولة،وذلك بالقطع واحدا من المداخل المؤكدة لزمن السياسة .