عندما يتقاضى مسؤول في قناة تلفزية مفلسة راتبا شهريا يفوق راتب ملك البلاد.
لنعد، مرة أخرى، إلى هذا النقاش العمومي الساخن، الذي فجرته تسريبات ال”CNSS”..
وهي تسريبات يمكن اعتبارها بمثابة “ويكيليكس” جديدة بمفعول “تسونامي” ضرب المغرب والمغاربة دون سابق إنذار..
وأقصد هنا هذا النقاش الجاري حول الأجور العليا في واقع مغربي فيه مشاهد كثيرة من البؤس ومن الفقر وربما حتى من “العبودية” أيضا..
وبالطبع فالذي يشتغل “ليل نهار” وبالساعات الطوال ويتقاضى ألفي درهم في آخر الشهر هو نوع من “العبودية” الجديدة “ما فيها لا إلا ولا حتى”..
وما كان لهذا أن يحصل لولا صمت أثرياء السياسة..
ولولا صمت أثرياء النقابات..
ولولا صمت أثرياء آخرين بهويات كثيرة يزينون مشاهد القبح..
وأيضا ما كان لهذا أن يحصل لولا تواطؤ أقلية تملك كل شيء ومع ذلك نعطيها، بسخاء، حتى “الدعم الصحفي” ..
فيما لا تملك الأغلبية من المغاربة أي شيء عدا أجور مخجلة لا تستر حتى الحد الأدنى من الكرامة الآدمية..
صحيح أن مسؤولية الدولة ومسؤولية جميع الحكومات ثابتة في هذه المأساة:
مأساة هذه الفجوة الصارخة والفاضحة بين الأجور العليا وبين الأجور السفلى..
لماذا أقول إن مسؤولية الدولة وجميع الحكومات، التي تعاقبت على تسيير الشأن العام بالمغرب، ثابتة؟
بكل بساطة لأنه كان من الممكن أن يتم فتح ورش سياسة الأجور مبكرا وربما عقب استقلال المغرب وعقب مغربة الإدارة خاصة في القطاع العام..
لكن يبدو أن هناك من فضل أن يظل هذا الورش مغلقا إلى الأبد لكي تستمر هذه العشوائية ولكي تستمر هذه “الانتهاكات الجسيمة” في حق بسطاء الناس..
ويكفي أن نذكر في هذا المنحى أن هذه التسريبات كشفت لنا كيف أن كاتبة خاصة لمدير في شركة متعددة الخدمات بجهة الدار البيضاء تتقاضى راتبا يعادل راتب رئيس الحكومة..
مقابل هذا، يتقاضى نائب مدير عام لهذه الشركة نفسها راتبا متواضعا لا يكاد يصل حتى إلى ثلث راتب هذه الكاتبة الخاصة..
أما المديرون الإقليميون في هذه الشركة المتعددة الخدمات بأكبر جهة بالمغرب فيتقاضون أجورا أقل من عادية وأقل حتى من رؤساء مصالح..
وربما تجوز في بعض هؤلاء المديرين الإقليميين “الصدقة” بالنظر للمهام وللمخاطر وللمسؤوليات التي تقع على عاتقهم ..
ولن أتحدث عن مسؤولين وغير مسؤولين يعانون في صمت مع أجور هزيلة في عدة وزارات وفي أكثر من مؤسسة عمومية..
كما لن أتحدث عن خيار “راديو ميدي 1″ و”ميدي 1 تيفي” وعن وكالته الإشهارية “ريجي 3” وعما يشبه تنازع المصالح في هذه المهام كلها..
لن أتحدث عن هذا الرجل الذي يتقاضى راتبا شهريا خياليا حدده البعض ليس في 40 مليونا وإنما بأكثر من ذلك بكثير..
والمثير أيضا أن “الخيار” المعني يتقاضى راتبا سمينا من قناة تلفزية مفلسة ولا تدر سنتيما واحدا من الأرباح رغم أن هذه القناة تزخر بالكثير من الكفاءات الصحفية العالية..
شخصيا أتفهم أن يتقاضى بعض الأطر من ذوي الكفاءة رواتب عليا حتى وإن كان ذلك من مؤسسات عمومية..
لماذا؟
لأن هذه الكفاءات، إضافة إلى كونها مطلوبة في سوق الشغل بالقطاع الخاص، فهي أيضا تحدث الفرق عندما تتولى المسؤولية في مثل هذه المؤسسات العمومية..
دعونا نضرب هنا المثل بالفوسفاط..
ولست في حاجة إلى التذكير هنا بأن كنا نصدر الفوسفاط مادة خام قبل أن يأتي رئيس مدير عام غير عادي وضع هذا القطاع على سكة التصنيع بأرباح فلكية..
وقد أذهب أبعد من ذلك لأقول إني أتفهم أيضا حتى أن تخصص رواتب عليا لمسؤولين سامين لهم مهام لها ارتباط وثيق باستقرار البلد وبأمن البلد..
لكن أن يتقاضى مسؤول تلفزيوني، لا يسوى في السوق أي شيء وفي قناة عمومية بلا أرباح ولا يشاهدها حتى سكان طنجة، (أن يتقاضى) راتبا يفوق ربما حتى راتب الملك، فهذا ضرب من الجنون حتى لا أقول إنه “الاستفزاز” بشحمه ولحمه..