وهبي يكتب: أي اقتصاد وطني بعد كورونا؟ 3/3
إن سياسة اقتصادية ناجحة بعد الحجر الصحي هي سياسة تقبل بانخفاض الإنتاج الداخلي الخام إن لم تكن تسعى له، لأنها تتكيف مع واقع جديد هدفه هو منع انتشار جديد للوباء.
من هنا فإن الإجابة على أزمة الاقتصاد بعد الحجر الصحي هي أولا إيجابية تنظيمية لإيجاد بنيات واقعية للشغل والإنتاج تستجيب لمقتضيات الوقاية الشديدة التي سوف نتحلى بها، فالإجابات المالية النقدية على أهميتها سوف لن تثمر النتائج المرجوة إذا هي لم تقوم على مقاربة تنظيمية وقائية تضمن رواجا سلعيا بقواعد صحية لمحاربة انتشار الوباء.
هكذا يبدو أن اقتصاد مرحلة بعد الحجر الصحي هو اقتصاد الوقاية الصحية وهو يهدف إلى استرجاع ثقة المغاربة في سلامة صحتهم العمومية.
إلا أن الثقة لكي تتقوى كعامل أساسي في النشاط الاقتصادي تتطلب أن يدرك المغاربة جميعا على أن الجميع يساهم وفق إمكانياته وطاقته وموقعه، في بناء إنعاش الاقتصاد الوطني.
وأول وجه لبناء الثقة هي العدالة في تقديم مساعدات الدولة، إذ من المعروف أن المقاولات الكبيرة لها سيولة نقدية تمكنها من تلمس سبل الخروج من الصعوبات التي وضعها فيها الحجر الصحي، عكس المقاولات الصغيرة والمتوسطة وأنشطة القطاعات غير المهيكلة وبالتالي سيكون من المفيد التفكير في صيغة معينة لتقاسم الأجر بين الدولة وهذه المقاولات الكبيرة لتخفيف العبء على الدولة وضخ قدرة شرائية قادرة على الاستهلاك الذي سيساهم في إنعاش النسيج الاقتصادي ككل.
ثم الاعتماد المطول على الدولة وحدها، سيقود في مرحلة بعد الوباء إلى دفعها لسن سياسة ضريبية ستكون ضحيتها لا محالة هي الطبقات المتوسطة، مما سيؤثر على دينامية الاستهلاك و يسبب بدوره في ركود محتمل، لذلك سوف يكون من المحمود التفكير في موارد مالية متنوعة لمواجه تداعيات كوفيد 19 على الاقتصاد المغربي، وعدم جعل بدون قصد الطبقات المتوسطة والصغرى تؤدي الثمن أكثر من الأغنياء و أرباب المقاولات الكبرى الذين استفادوا من سياسات اقتصادية على مر عقود عديدة.
لقد حان الوقت لعدالة ضريبية تقوي الاندماج الاجتماعي والاقتصاد للمجتمع المغربي، والاهتمام بالاقتصاد الواقعي باعتباره المتضرر الأكبر من هذه الأزمة، يعني كذلك الإهتمام بقطاعات اجتماعية واسعة تعيش من أنشطة صغيرة كالحلاقة و تجار الملابس و بائعي الأسواق المحلية و الجهوية و محلات التجميل و غيرها من الأنشطة التي تلعب أدوار توازن الحياة العامة للمجتمع.
ثم إننا لا يجب أن ننسى أن الأزمة الاقتصادية التي أدخلنا إليها وباء كوفيد 19، هي كذلك لها تأثيرات سلبية كبيرة على فئة الشباب والأطفال بالمغرب فتوقف الدراسة ومعاهد التكوين ومؤسسات الشباب و الرياضة أساء كثيرا لمسار تعلم و تكوين و تأهيل قطاعات واسعة من أطفالنا و شبابنا في جميع المجالات التعليمية و المهنية والدينية و الرياضية، الأمر الذي سوف يكون له إنعكاسات على مستوى جودة مواردنا البشرية.
فالجميع يعلم أنه رغم المجهودات الجبارة التي قامت بها وزارة التربية الوطنية و تكوين الأطر والتكوين العالي و كل رجال و نساء التعليم والتكوين على كافة المستويات لخوض تجربة التعليم و التكوين عن بعد، فإن نتائج هذه التجربة ونظرا لتفاوتها، تبقى في أمس الحاجة للمزيد من الطموحات، خاصة و أن خصوصية العملية التربوية التعليمية تملي ضخ المزيد من المجهودات للوصول إلى جودة عالية، كما أن الحجر الصحي الذي يعيشه المغرب سوف يؤثر على أنشطة عديدة لفنانين ورياضيين شباب كانوا في عز بناء مساراتهم و التهيؤ لتحقيق طموحاتهم للمساهمة في إشعاع بلادنا.
لذلك فإن التفكير في الحلول الاقتصادية لما بعد كوفيد 19 لا يجب أن يقلل من شأن الاهتمام بمجالات الطفولة والشباب لمدها بكل السبل الكفيلة بإنعاشها من جديد و العمل على استدراك كل الفوات الذي أضر بطاقات بلادنا في التكوين والفن والإبداع و الرياضة.
فإذا كان الوباء المشؤوم قد أدخل اقتصادنا في صعوبات كبيرة، و عمق عجزه الإنتاجي و المالي والاستهلاكي، فإن الحماس الوحدوي الذي أخترق كل نسيجنا الوطني خلق لدى المواطنات والمواطنين بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية والسياسية، ثقة كبيرة في قدرة دولتهم على مواجهة الصعاب التي تهددهم، و بالتالي ثقة كبيرة كذلك في المستقبل والمغرب، خاصة في الوضعية الحالية، في حاجة إلى الثقة في مستقبله و الثقة هنا تعني، التحلي بقدر عال من الوضوح عند تقييم الحصيلة و تقوية الإمكانيات وتحليل نقدي عميق لأسباب الضعف الذي يلاحق العديد من المجالات، ثم الجرأة في طرح البدائل القيمية بخلق تحديات الفترة القادمة.
فما بين الأزمة الحالية و الثقة في المستقبل، على المغرب أن يتجه نحو تقوية إقتصاد الثقة، لأن بناء حلول اقتصادية لا يتوقف فقط على مسائل إحصائية و معطيات مادية و أرقام و بيانات، بل هو أولا و قبل أي شيء تشييد ثقة قوية بين المواطنين و بينهم و اقتصادهم الوطني، الثقة في الكلمة العمومية، في قرارات الدولة و عدالتها في تقوية المؤسسات و تجويد عملها، تشييد الثقة كذلك في أولوية سيادة القانون على الجميع، في تحديد المسؤوليات و في كتابة الاتفاقيات والاستفادة من خيرات الوطن و في استقلالية القضاء، في الدعم و المواكبة لكل الفاعلين الاقتصاديين الذين تضرروا من فترة الحجر الصحي و في جعل المنظومة التعليمية تحتضن جميع أبناء الوطن بنفس الإمكانيات والحضوض، بكلمة واحدة بناء ثقة مستدامة في الآفاق التي يفتحها وطننا لأبنائه و الجميع يعلم أن الثقة لا تبنى بقرار، بل تشيد على مسار الوضوح و الانسجام.
يقول أحد مساعدي الجنرال دوكول و المقربين إليه إبان بناء الاقتصاد الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية في كتابه <<la société de confiance >> مجتمع الريبة و الحذر هو مجتمع هش تسوده (معادلة) رابح-خاسر، مجتمع الحياة المشتركة داخله هي محصلة صفر، بل تحت الصفر، مجتمع ملائم للنزاعات الاجتماعية، يسوده الانغلاق و عنف المراقبة المتبادلة، مجتمع الثقة هو مجتمع النمو، مجتمع رابح –رابح، مجتمع التضامن و المشروع المشترك، مجتمع مفتوح على التبادلات و التواصل ، و لعل في حالة بلادنا المغرب فإن أهم مقدمة لتشييد مجتمع الثقة، هي مقدمة عنصرين إثنين أساسيين : الأول هو التخلي عن اقتصاد الريع و الثاني هو محاربة الفساد.
يحدثنا التاريخ كثيرا عن تحولات درامتيكية عرفتها البشرية في مسارها، تحولات نتجت عن صيرورة تشكلت عبر سلسلة ابتدأت بوباء نجم عنه أزمة اقتصادية، التردد في معالجتها بجدية خلق اضطرابات اجتماعية قادت إلى أزمة سياسية خطيرة إلى هذا الحد أو ذاك.
أكيد أن بلادنا بعيدة عن هذا الاحتمال، فالدولة وإن كانت قبل الوباء عاجزة على خلق نمو اقتصادي مطرد، فإنها في مواجهة كوفيد 19، استطاعت امتصاص الصدمة و خلق شروط اقتصادية واجتماعية و تنظيمية جعلت هذه المواجهة فعالة و ناجحة، وبناء على هذا النجاح خلقت وحدة وطنية أساسها حماس حفاظ الأفراد لصحة غيرهم قبل صحتهم الخاصة، مما أنتج لحظة تاريخية ملئها التطلع لوطن أفضل.