خالد حاجي يكتب: تأملات في زمن حجر مفروض.. أو الخلوة وعلاقة السكون بالحركة والصمت بالصوت
يتساءل الشاعر البريطاني ويليام هنري ديفيس في إحدى قصائده الجميلة حول « جدوى حياة ملؤها الحرص والاهتمام، لا وقت فيها للوقوف والتأمل! »، ليخلص في نهاية قصيدته إلى القول « إنها حياة فقيرة، تلك التي ملؤها الحرص والاهتمام، دون وقت للوقوف والتأمل ». ويستنتج القارئ من أبيات ويليام هنري ديفيس أن الغنى في الحياة، أو غنى الحياة، مرتبط، من بعض الوجوه، بالوقوف والتأمل. كما نستنتج أن الفقر في الحياة، أو فقر الحياة، قد يرتبط، من بعض الوجوه، بالحركة والسعي الدؤوبين، دون تفكر وتدبر. بل أكثر من هذا، فإن الإنسان إن كان لا يهمه، مصبحا وممسيا، إلا الكسب والصناعة والفعل، فقد يكون بهذا أقرب إلى جلب المصائب والكوارث وإلى لبس لباس الجوع والخوف، منه إلى تحصيل حياة الرغد والأمن والاطمئنان والتنعم.
مع الحجر الصحي المفروض على البشرية اليوم، نجد أنفسنا أمام فرصة عظيمة، لم يسبق للبشرية أن ظفرت بمثلها، للتفكير في موضوع العلاقة بين التأمل والفعل. فكيف نخرج من السكون إلى الحركة، ومن الصمت إلى الصوت، خروجا مسددا، رشيدا، لا تشوبه شائبة من الاشتطاط والغفلة عن مقصد الاستقرار والتنعم في الوجود، خروجا لا يستتبع القوارع والكوارث؟
من أبرز الأعمال الفلسفية التي عني أصحابها بالإجابة عن مثل هذه الأسئلة في العقد الأخير، كتاب بيير-هنري طافوالو ( Pierre-Henry Tavoillot ) عن النحل، وقد اختار له عنوان « النحلة (و) الفيلسوف (ة) » ( L’Abeille [ et le ] philosophe )، عنوانا ملتبسا يقرأ قراءتين؛ الأولى فيها عطف الفيلسوف على النحلة، والثانية فيها نعت للنحلة بالتفلسف. يستعرض طافوالوا في هذا الكتاب الغني حضور النحلة في المخيال الإنساني عبر التاريخ، منذ عهد الأسطورة اليونانية إلى اليوم. فالنحلة، كما تخبرنا بعض الأساطير، هي التي شنفت طباع الإنسان وأخرجته بفضل حلاوة عسلها من طور التوحش إلى طور الاجتماع الإنساني المتحضر. واليوم نستعير لفظة « طنين » (Buzz) من عالم النحل للدلالة على حضور الإنسان وحركته في العالم الرقمي.
ظل الإنسان، على امتداد التاريخ، يحيل على النحلة رمزا للانتظام والالتزام والانضباط والرشاقة والنشاط. فالنحلة ما تزال منذ وجدت تتحرك في إطار خلية محكمة التنظيم، تقوم بنفس الحركات، بنفس العمل المسدد الذي لا يثمر إلا عسلا. والعسل، عند تحقيق النظر، هو حصيلة أكثر الأنظمة الصناعية قربا من الطبيعة، وأكثر الأنظمة الطبيعية قربا من الصناعة. لهذا الاعتبار فقد استقر في المخيال الإنساني أن النحلة تمثل النموذج الأمثل الذي يجب الاقتداء به في تنظيم حياة المجتمع وترشيد أفعاله. غير أن البشرية، في اعتقادنا، قد أثبتت عبر التاريخ عجزها عن الحدو حدو النحل والإتيان بأفعال تخرج الإنسان من الطبيعة إلى الصناعة خروجا مسددا لا يثمر إلا عسلا. وكأننا بالإنسان، على عكس النحلة، قد بُرمج على القابلية للاشتطاط والمبالغة وتجاوز الحد في محاولته بسط الصناعة على الطبيعة، تجاوزا قد يفضي إلى المصائب والقوارع!
من المفروض أن يتيح لنا الحجر الصحي فرصة التأمل في حركاتنا في الكون، بغرض التمييز بين النافع منها والضار، بين الصالح منها والطالح، وبين الضروري منها والتافه، على وجه الخصوص. فكثير من حركاتنا فيها إهدار للطاقة وزيادة في « بصمة الكربون » (Carbon footprint) غير مبررة. يقول هنري ديفيد ثورو (Henry David Thoreau)، صاحب كتاب « ولدن » (Walden)، في معرض تسائله بخصوص الحكمة وراء الفعل الإنساني، وجدوى تحركات المجتمع الأمريكي في القرن التاسع عشر، يقول ساخرا أنه سمع بوجود « مشروع يروم الربط بين أمريكا والصين عبر نفق طويل تحت الأرض، ويبدو أن أصحاب هذا المشروع ماضون في الحفر، وأن بعض الأخبار تفيد أنهم الآن على وشك إنجازه، بحيث أصبحت تصل أسماعهم أصوات أواني الصينيين ». بهذا يريد ثورو التنبيه إلى ضروب من العبث في الفعل الإنساني؛ إذ ليس كل ما يؤتى من أفعال له معنى، أو يكثف إحساس المرء بالوجود. ويضيف متحدثا عن بعض المعالم والآثار والأنصاب التاريخية، أنه لا يكترث ?