مصطفى الفن يكتب: انتخابات القضاة.. ما المطلوب لكسب هذا الرهان؟
لا خلاف في أننا قطعنا أشواطا مهمة في إصلاح منظومة العدالة بالبلد ولازلت هناك أشواط أخرى أكثر أهمية تنتظر.
أو بصيغة أخرى، نحن بلد فيه الأبيض وفيه الأسود أو “قهوة وحليب” كما يقال.
أقصد أننا لسنا مثل بريطانيا لكن ما هو مؤكد هو أننا أحسن بكثير من دول الجوار المغاربي وأحسن حتى من دول المشرق العربي حيث لا قضاء ولا مؤسسات ولا انتخابات ولو صورية.
والمؤكد أيضا أن التعيينات الملكية، التي عرفتها المؤسسة القضائية بالمغرب قبل أكثر من ستة أشهر، تندرج في هذا الأفق المرتبط بإصلاح بعض “أعطاب” هذه المؤسسة ذات الحساسية الخاصة.
ولا أدري أين سمعت وقتها أن تلك التعيينات الملكية داخل مؤسسة القضاء كانت مؤطرة بهاجس لافت وهام جاء فيه ما يشبه “ربما” هذا المضمون:
“المواطنون ينتظرون وجلالته ينتظر..”.
وأتذكر أن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية نفسه تحدث بنفس الهاجس عما هو أهم في عملية الإصلاح في أول خروج إعلامي له عقب تعيينه على رأس هذه المؤسسة الدستورية.
بل إن الرئيس المنتدب للمجلس تحدث بصريح العبارة واختصر هذا الأهم في ضرورة استرجاع “الثقة” كتحد رقم واحد في عملية إصلاح العدالة.
وأول خطوة في رحلة استرجاع الثقة في عدالة البلد ليس هو فقط تفعيل مقتضيات التأديب ضد كل تجاوز صغير أو كبير يقع داخل جسم القضاة..
وإن كان كل هذا هو بمثابة معلوم من الدين بالضرورة ومبدأ دستوري قبل كل شيء.
لكن الخطوة الاولى في رحلة استرجاع هذه الثقة تمر بالضرورة عبر كسب رهان الاستحقاق الانتخابي الذي يهم انتخاب نصف أعضاء المجلس الاعلى للسلطة القضائية.
ولا يمكن كسب هذا الرهان المنتظر في ال23 من أكتوبر القادم ما لم يتم تدارك أخطاء الماضي والقطع مع بعض ممارساته.
ثم إن القضاة ليسوا كأي جسم آخر وليسوا كأي هيئة أخرى وليسوا كأي مؤسسة أخرى..
القضاة هم جسم بخصوصية استثنائية، وانتخاباتهم ينبغي أن تكون هي الأقوم والأرقى والأنبل والأحسن مقارنة مع باقي الانتخابات الأخرى..
وهذا هو المفترض والطبيعي والأصل لأن القضاة هم الملاذ وهم الملجأ الأول والأخير للمظلومين والحيارى من الناس..
وأكيد أن جسما بهذه الخصوصية والذي يشرف على كل الاستحقاقات الانتخابية للآخرين بما فيها انتخابات رؤساء الدول، ينبغي أن تكون عملية انتخاب ممثليه في أجواء عنوانها العريض هو الشفافية..
وبالطبع لا بد من الاعتراف بالمجهودات الهامة التي بذلها المجلس الأعلى للسلطة القضائية من أجل كسب هذا الرهان الانتخابي منذ التعيينات الملكية الأخيرة ومع رحيل رئيس منتدب ومجيء آخر..
ويكفي أن أشير في هذا المنحى إلى الميثاق الأخلاقي الذي أعلن عنه المجلس الأعلى للسلطة القضائية في وقت سابق مع الجمعيات المهنية القضائية.
وتكمن أهمية هذا الميثاق الأخلاقي في تركيزه على نقطة محورية تتعلق أساسا بتدبير هذه الانتخابات المنتظرة بكل الشفافية اللازمة.
بل إن المجلس الأعلى للسلطة القضائية ذهب أبعد من ذلك واشتغل على أكثر من واجهة لتحصين هذا الاستحقاق الانتخابي ولسد حتى الثقوب الصغيرة التي قد يتسرب منها بعض الشك.
وهنا تنبغي الإشادة أيضا بدور المجلس الأعلى في فرض أو افتراض بعض “الشروط” الأخلاقية في المرشح حتى وإن كانت هذه “الشروط” غير مكتوبة..
وهذه “الشروط الأخلاقية” غير المكتوبة هي التي جعلت، من الترشح لتمثيل القضاة أو الوقوف بين يدي الملك، قضية ليست في متناول الجميع وليست في متناول أي كان.
وهذا هو الأصل لأن الذي يرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية والذي تصدر الأحكام باسمه هو الملك شخصيا، وما يمثله شخص جلالته من ثقل ديني وروحي ورمزي..
وأعضاء هذا المجلس، سواء كانوا معينين أو منتخبين، ينبغي أن يكونوا أبعد عن الشبهات وأبعد حتى عن خوارم المروؤة لكن بالمقابل عليهم أن يكونوا أقرب إلى السماء من حيث صفاء الروح والقلب..
ومهم جدا أن أذكر، ارتباطا بهذا الساق كله، أن رحلة استعادة الثقة في القضاء تتطلب أيضا المزيد من “الشروط الأخلاقية” غير المكتوبة.
لماذا؟
لأن بعض القضاة، الذين وضعوا ترشيحاتهم لخوض سباق هذا الاستحقاق الانتخابي ثم عادوا فيما بعد وسحبوا هذه الترشيحات، مطالبون أيضا ألا يقفوا عند هذه الخطوة الشجاعة..
بل عليهم أيضا، ومن باب أولى، أن يفكروا في كيفية الانسحاب التلقائي حتى من مهمة إصدار الأحكام على الناس باسم الملك.
أعرف أن هذا جد صعب، وأعرف أن دونه ربما خرط القتاد لكن من خاف، عليه أن يسرع في السير لأن سلعة الله غالية..
ولأن العدل هو أساس الحكم والملك وهو أساس استمرارية العمران وبنيان الدولة..